شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الحدود [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى:

[وأشد الجلد جلد الزنا ].

تقدم معنا أن الجلد عقوبة من عقوبات الحدود، ولما ذكر المصنف رحمه الله بعض الأحكام المتعلقة بالجلد شرع في بيان مسألة مهمة: وهي أن الجلد يقع في عقوبة الزنا، وعقوبة القذف، وعقوبة السكر، وفي التعزير أيضاً، فهل يكون الجلد كله واحداً في هذه الحدود بحيث لا يكون أشد في حدٍ دون آخر أم لا؟

اختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسألة:

فذهب طائفة من أهل العلم: إلى أن أشد الجلد يكون في حد الزنا، ثم يليه حد القذف، ثم يليه حد السكر، ثم يليه التعزير، وهذا هو الذي اختاره المصنف رحمه الله.

وذهب بعض العلماء رحمهم الله: إلى أن الضرب في الحدود كلها على حد سواء، وهذا قول الإمام مالك والشافعي رحمة الله على الجميع، قالوا: لأنه لم يرد في النصوص تفضيل حدٍ على آخر، أو بيان أن الجلد في حدٍ يكون أقوى من الحد الآخر.

وذهب الإمام أبو حنيفة النعمان -عليه من الله شآبيب الرحمات والرضوان- إلى القول بأن أشد الضرب يكون في التعزير، ثم بعد ذلك الزنا، ثم بعد ذلك السكر.

والذي يظهر أن ما اختاره المصنف هو الصحيح، وذلك لعدة أدلة:

أولاً: أن الله تعالى حد الزنا بجلد مائة جلدة، ولم يسو بين الزنا والقذف، فالقذف أقلّ من الزنا عدداً، والسكر أقل من الزنا عدداً، فدل على أن عقوبة الزنا أقوى من عقوبة القذف والسكر، والتعزير أصلاً لا يصل الضرب فيه إلى الحدود، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن وصوله إلى ذلك الحد، فدل على أن: القذف والسكر والتعزير كلها دون الزنا بنص الشرع؛ لأن الشرع جعل العقوبة في الزنا أقوى.

ثانياً: أن الله تعالى قال في الزنا: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] ، وقال في القذف: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا [النور:4] ، فذكر في حد الزنا الجلد مقروناً بقوله: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، ولم يذكر هذا الوصف في غيره، فدل على أن ضرب الزنا أقوى من ضرب غيره، ثم يلي الزنا القذف كما ذكر المصنف رحمه الله.

وأما الذين قالوا: إن التعزير أشد -وهم الحنفية- فاحتجوا بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ضرب رجلاً في التعزير ضرباً شديداً، حتى أثر في ضربه، وهو صبيغ بن عسل ، وكان رجلاً مفتوناً -والعياذ بالله- من أهل الكوفة، وكان يأخذ آيات القرآن ويضرب بعضها ببعض، وذلك من انطماس بصيرته في أول أمره -والعياذ بالله- فأزله الشيطان بالشبه، فصار يأتي بالآيات المتعارضة، فكتب أبو موسى الأشعري رضي الله عنه إلى عمر بخبره، فكتب له عمر : إذا أتاك كتابي فلا تبرح حتى تبعث به إلي، فمضى صبيغ إلى عمر بالمدينة، فأتاه فوقف عليه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا صبيغ بن عسل ، قال: أأنت الذي أخبرني عنه أبو موسى ؟ قال: نعم، فقام إليه بالدرة، وضربه ضرباً شديداً، ثم قال له: هل تجد شيئاً مما تحسه؟ قال: لا، فعلم عمر أن الشيطان كان قد تلبس به -والعياذ بالله- فأدبه رضي الله عنه، وضربه ضرباً شديداً، فمن هنا قالوا: إن التعزير يقدم، والذي يظهر -والله أعلم- أن وصف ضرب عمر بالشدة لا يستلزم أنه أشد من الزنا؛ لأن الوصف المطلق لا يقتضي الحكم على المقيد من كل وجه، وإنما وصف هذا الضرب بكونه شديداً بالنسبة لغيره.

ثم عندنا نص القرآن، وهو واضح الدلالة على أن حد الزنا أشد من غيره، فما اختاره المصنف رحمه الله من أن أشد الجلد يكون في الزنا هو الصحيح لأدلة القرآن.

قال رحمه الله:

[ثم القذف].

القذف هو: قذف المحصنات الغافلات المؤمنات بالزنا، ويكون للمسلم والمسلمة، كأن يقول للمسلم: يا زان! أو يقول لامرأة: يا زانية! أو فلانة زانية، أو فلان زان، فالاعتداء على أعراض المسلمين جريمة، وانظر إلى حكمة الشرع حيث عاقبه الله في بدنه، وعاقبه في لسانه، ولما ينتظره من عقوبة الله في الآخرة أشد وأبقى؛ إذا لم يتب إلى الله عز وجل، ولذلك قال سبحانه: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:4]، فحكم بجلدهم ثم قطع لسانهم بعدم قبول شهادتهم؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فلما كانت هذه الألسنة لا تتقي الله في أعراض المسلمين؛ قطعها الشرع، وسنبين إن شاء الله هذا الحد.

فذكر رحمه الله أن حد القذف بعد حد الزنا، وهذا صحيح؛ لأن القذف مركب على التهمة بالزنا، وكلاهما اعتداء على الأعراض، لكن الاعتداء بالزنا أشد؛ لأنه بالفعل نفسه، وأما القذف فهو التهمة بالفعل، ومن هنا ألحقت العقوبة بالأصل، لأن الباب واحد وهو الاعتداء على العرض، والله جعل حد الفرية -وهي القذف- ثمانين جلدة، ففضلت حد الخمر الذي هو أربعون جلدة، وكان أقوى من حد السكر، خلافاً لمن قال من العلماء: إن حد السكر يلي حد الزنا، وهو مذهب من يقول بالتفضيل وفاقاً للمصنف، وطائفة وهم الحنفية يرون التعزير ثم السكر ثم الزنا.

قال المصنف رحمه الله: [ ثم الشرب ].

وهو حد المسكر، وسيأتينا إن شاء الله، فالضرب فيه دون حد القذف، ولذلك الصحابة رضوان الله عليهم لما أرادوا أن يقدروا حد الخمر؛ أوصلوه إلى حد القذف، فدل على أن حد المسكر بعد القذف، وليس مساوياً للقذف، ولا أقوى من القذف.

قال المصنف رحمه الله: [ ثم التعزير ].

التعزير يكون في الجرائم التي ليس لها حدود مقدرة من الشرع، من الأفعال التي لا تصل إلى الحدود، كشخص مثلاً هجم على بيتٍ، يريد أن يسرق، فافتضح أمره قبل السرقة، أو كان يريد الزنا ولكن لم يفعل ذلك، أو خلا بامرأة لفعل الزنا ولكن لم يفعل، أو تجردا ولم يقع منهما الزنا، ونحو ذلك من الجرائم القاصرة والناقصة، فعقوبة التعزير لا تصل إلى الحد، فقول الحنفية أن الضرب في التعزير أشد من الضرب في الحدود ضعيف؛ لأن أصل التعزير فيما دون الحد، ولا يمكن أن يكون ما دون الحد أقوى عقوبة من الحد نفسه، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصل الضرب في التعزير إلى الحد، فمذهب المصنف رحمه الله الذي اختاره هو الصحيح إن شاء الله والأقرب إلى النص.

قال المصنف رحمه الله: [ ومن مات في حدٍ فالحق قتله ].

لو أن شخصاً أقيم عليه الجلد في حد الزنا، وأثناء الجلد سقط ميتاً فالحق قتله، لا نقول: إن على الضارب الدية لأنه تسبب في قتله؛ لأن هذا الضرب مبنيٌ على أمر شرعي، والذي أمر به هو الشرع، فجميع ما ترتب على هذا الضرب إنما هو من الشرع، وليس منا، والله يحكم ولا معقب لحكمه، ويروى أن رجلاً مات لما جلد الحد فقال علي رضي الله عنه: الحد قتله، أي: لسنا الذين قتلناه، وإنما قتله حد الله الذي أقيم عليه، فنحن مأمورون بإقامته، وما ترتب عليه فلسنا متحملين المسئولية.

لكن إذا زاد الضارب في العقوبة، وتجاوز الحد الشرعي فإنه يضمن، فلو أنه ضربه في مقتل -وقد قلنا: لا يضرب في المقاتل- فسقط ميتاً، فقد تعدى الضارب، فيتحمل المسئولية، وفي هذا تفصيل عند العلماء، ففي بعض الصور يكون من باب الخطأ، وهل يضمن بيت مال المسلمين أم يضمن الجلاد أم يضمن القاضي الذي حكم بتنفيذ الحد عليه أم تكون مسئولية مشتركة وتكون من بيت مال المسلمين؟

ثم إذا قلنا: بتضمين الجلاد، فهل الدية على عاقلته أو عليه؟ في ذلك كلام للعلماء رحمهم الله.

قال المصنف رحمه الله: [ ولا يحفر للمرجوم في الزنا ].

الرجم عقوبة من الله عز وجل للزاني المحصن من الرجال والنساء، فإذا زنى المحصن؛ فإنه يرجم، والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم).

والرجم يكون بالحجارة وما في حكمها، ولذلك رجم الصحابة رضوان الله عليهم حتى بالعظام الكبيرة، وقُتِل ماعز عندما رجم بعظم بعير، ضربه به رجلٌ فقتله، وكان قد رجم بالفخار وبجلاميد الصخر رضي الله عنه وأرضاه، فالرجم عقوبة، وهذه العقوبة اختلف العلماء رحمهم الله فيها: هل يحفر للشخص الذي يراد رجمه أو لا يحفر؟

قال بعض العلماء: لا يحفر له، واحتجوا بما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه وأرضاه في قصة ماعز رضي الله عنه قال: (فوالله! ما حفرنا له، ولا أوثقناه، ولكن قام لنا حتى إذا استحر من الرجم ...) الحديث، فقال: (ما أوثقناه) يعني: ما ربطناه، (ولا حفرنا له)، وهذا يدل على أن الحفر لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بـماعز ، واستدلوا أيضاً بقصة الرجل والمرأة اليهوديين الذين زنيا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالحفر لهما كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين قال: (أمر بهما فرجما -يعني الرجل والمرأة- فرأيت الرجل يجني على المرأة)، أي يعطف عليها ويميل إليها حتى لا تأتيها الحجارة، ولو حفر لهما لما وقع هذا، فالحفر لا يشرع للرجل عند جماهير العلماء، واختلفوا في المرأة:

فبعض العلماء يرى أن المرأة يحفر لها، واستدلوا بقصة ماعز في رواية بريدة، ففيها أنه حفر لها، فبعض العلماء يقول: المثبت مقدم على النافي، وبريدة أثبت أنه حفر له كما في إحدى روايات أحمد ومسلم ، ولذا قالوا: يحفر للمرجوم، وجُمِع بين الروايتين بأن المثبت للحفر يعني بذلك حفرة ليست بتلك التي تمنع، ومن نفى الحفر قصد الحفرة التي تمنع، ولكن عدم الحفر أقوى من ناحية الرواية، خاصة وأن رواية خالد بن اللجلاج -وهي صحيحة- نص فيها على عدم الحفر، فتقوى رواية النفي، وقالوا: لو حفر لـماعز لما فر عنهم، فكيف فر عنهم وهو محفور له؟ وكيف خرج من الحفرة؟ قالوا: الأقوى عدم الحفر، خاصة أن الروايتين لما تعارضتا جاء ما يرجح إحداهما على الأخرى، وبقي الخلاف في النساء، والخلاف فيهن أقوى من الخلاف في الرجال؛ لأن الحاجة إلى الحفر للنساء أشد، وفزعهن أعظم، ومن هنا اختلف في المرأتين اللتين زنتا، لكن حديث اليهودية مع اليهودي ليس فيه حفر، والرواية واحدة والسند فيها من السلسلة الذهبية: الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر ، فهي من أصح الروايات، فلا إشكال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لها.

ولذا اختار المصنف رحمه الله عدم الحفر، وهناك قول لبعض العلماء -وهو قولٌ جميل وفيه جمع بين النصوص- وهو: أنه يرجع إلى نظر الإمام واجتهاده، فإن رأى الحفر في بعض الأحوال أمر بالحفر، وإن لم ير الحفر لم يأمر به، فالأمر إليه، ويجمع بهذا القول، وهو أشبه إن شاء الله تعالى.

حكم جمع الجلد والرجم على الزاني المحصن

السؤال: هل كان في أول الأمر إذا زنا المحصن يجلد ثم يرجم؟

الجواب: باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:

اختلف العلماء في المحصن هل يرجم فقط أو يرجم ويجلد؟

والذي تدل عليه الأدلة وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها غير واحد من أصحابه، وهو قول إسحاق بن راهويه والثوري، وطائفة من أئمة السلف: أنه يجمع بين الجلد والرجم، وهذا هو الصحيح؛ لحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم- أنه عليه الصلاة والسلام قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر، جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم)، فقرن بين الجلد والرجم، وطبق هذه العقوبة علي رضي الله عنه في شراحة حينما جلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أهل العلم رحمهم الله من فرق بين الإقرار وغيره، فمن أقر بالزنا وهو محصن، يرجم ولا يجلد، ومن قامت عليه البينة، يجلد ويرجم، وهذا القول قوي جداً، خاصة وأن النصوص التي ورد فيها الاعتراف ليس فيها إلا الرجم، كحديث (واغدُ -يا أنيس - إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها)، فاعترفت فرجمها، (فأمر به فرجم)، (فأمر بها، فشكت عليها ثيابها، ثم رجمت)، وكل هذا في الاعترافات، وحديث: (الثيب بالثيب جلد مائة والرجم) لا مانع أن يخصص بمن لم يعترف؛ لأن الذي اعترف تحمل وتجشم وصدق في التوبة إلى الله عز وجل، فلا مانع أن تخفف عنه العقوبة، وهذا القول يجمع به بين الأدلة، وهو من القوة بمكان، فيفرق على حسب حال البينة، والله تعالى أعلم.

أما أول الأمر فكانت العقوبة الحبس في البيوت، كما أخبر تعالى في آية النساء: حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]، فكانت العقوبة إذا عثر على الزاني والزانية أن يقفل عليهما في بيتهما، ويمنعان من الخروج، ثم جاء الحديث بالعقوبة: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً)، وهو الحكم المحكم في آخر الأمرين، والله تعالى أعلم.

حكم من أراد المعصية في مكة

السؤال: ما الدليل على أن من نوى المعصية في مكة يأثم وإن لم يصنعها؟ وهل السيئة في مكة بعشر أمثالها مع أن الله تعالى يقول: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام:160]؟

الجواب: أما القول بأن السيئة في مكة بعشرة أمثالها فهذا قولٌ باطل، ولم يقل به أحد من أهل العلم رحمهم الله؛ لأن النصوص واضحة في الكتاب والسنة أن من فعل السيئة فلا يجزى إلا مثلها، كما قال تعالى: وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام:160]، وفي السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (من جاء بالحسنة؛ فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة؛ فلا أجزيه إلا مثلها أو أعفو)، فالله سبحانه وتعالى لا يجزي بالسيئة إلا سيئة أو يعفو سبحانه.

لكن هناك مسألة مهمة، وهي دقيقة وترفع الإشكال في هذا الأمر، يقول بعض العلماء: يتضاعف الذنب في مكة لعظم المكان، وهذه مسألة ثانية، متعلقة بحرمة المكان وحرمة الزمان، والأصل ألا يتضاعف الذنب نفسه، وإنما يكون أصل العقوبة من الشرع، وأصل الاسم المقدر لهذه الجريمة وهذا الذنب عظيمٌ بالنسبة لغيره، فمثلاً لو كانت السيئة بالسب خارج مكة فيها ألف سيئة، ففي مكة فيها عشرة آلاف سيئة، وليست مضاعفة للسيئة نفسها ولكن الشرع جعلها عشرة آلاف لحرمة هذا المكان، وحينئذٍ لا تكون مضاعفة إنما يكون لأصل الوضع في الحكم، وأصل الوضع لا يقتضي التضعيف، وحينئذٍ لا تتعارض النصوص، أما ما ورد من النصوص أن السيئات يجزى صاحبها بمثلها، فإن السيئة بمكة ليست كالسيئة في خارج مكة، فللسيئة بمكة مثليٌ يناسبها، وللسيئة خارج مكة مثليٌ يناسبها، فإن وقع سبٌ خارج مكة وكان بألف سيئة، فإنه داخل مكة يكون بعشرة آلاف سيئة، وكثير من النصوص يظن فيها التعارض، ولكن يفرق بينها بأصل الوضع، ومن هنا يخرج طالب العلم من الإشكالات، وقد اختلف في سبب خروج ابن عباس رضي الله عنهما إلى الطائف، والصحيح ما وقع بينه وبين ابن الزبير من فتنة، ودخول الحساد بينهما، فاضطر ابن عباس رضي الله عنهما للخروج.

وهناك قول ثانٍ لسبب خروجه، وهو أنه لما خرج قال: لم تبق لي إلا حسنات أخشى أن تذهبها حرمة هذه البنية، يعني الكعبة، وهذا يدل على عظم تعظيم السلف رحمهم الله لأمر مكة، فعلى كل حال لا تضاعف السيئة بمجردها.

بقيت مسألة نية الذنب، والنية تختلف، وما يقع في القلب يختلف، فأول شيء يقع في القلب يسمى الهاجس، ثم بعد ذلك الخاطر، ثم بعد ذلك حديث النفس، ثم بعد ذلك الهم، ثم بعد ذلك العزم، فهذه خمس مراتب:

أولها الهاجس: وهو العارض على النفس، بعض العلماء يقول: ما يلقى في النفس، فبمجرد ما يلقى الشيء بالنفس يقال له: هاجس، فإن مر في داخل النفس يعني عقله القلب وفهمه وألم به ما يلقى، وجرى في النفس ودخل إلى النفس فخاطر.

وإن بدأ يتحدث: هل يقبله أو لا يقبله؟ يرده؟ يقدم عليه؟ يدبر عنه؟ فحديث نفس.

فإن أخذ هذا الحديث يستحكم بين أن يقدم أو يحجم؟ يقبل أو يدبر؟ يفعل أو لا يفعل؟ وتوجهت النفس لترجيح الفعل أو عدم الفعل؛ فقد اهتم به فيسمى الهم.

فإذا اهتم به واعتنى به وأراد أن ينفذه فيسمى العزم.

فهذه خمس مراتب، وبالنسبة للخاطر والهاجس والهم وحديث النفس فكلها معفو عنها، والنص صحيح صريح في أنه لا يؤاخذ العبد عليها، قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل)، فجعل حديث النفس لا تأثير له، ولو أن رجلاً حدث نفسه بمعصية فلا نحكم بمؤاخذته به؛ لأنه معفوٌ عن حديث النفس، فإن عزم وتوجه للشيء فهذا فيه إشكال عند العلماء رحمهم الله؛ لأنه إذا عزم وتوجه إليه واهتم به وعزم عليه؛ فهذا عملٌ قلبي، ولذلك قد تتوجه الإرادة إلى الشيء، وتعزم عليه وتقصده لكن لا يستطيع أن يفعله؛ لأن الظروف لم تيسر له فعله، فالعزم والتوجه الصادق فيه كلام للمحققين، فبعض العلماء يقول: حديث النفس الذي استحكم في النفس، وتوجه إليه القلب وأراده، واعتبره والتزمه يؤاخذ به، ولا يكون عازماً إلا إذا اعتنقه وعزم عليه، ما يقال: عزم على الشيء؛ إلا إذا كان قد استقر في مكنون قلبه على وجهٍ لا تردد فيه، فإن عزم عليه وتوجهت إرادته إلى الشيء قصداً، فيؤاخذ به وذكر هذا الإمام القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم وقال: إن المحققين من أهل العلم على هذا، واحتجوا بأدلة منها:

قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [النور:19] فهم يحبون أن تشيع الفاحشة لكن ما فعلوها.

وقال تعالى: اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، فخطرت الظنون وهجست وتحدثت فيها النفوس لما توجه إلى سوء الظن بأخيه المسلم، وجزم بهذا التوجه: أن أخاه كذاب أو غشاش أو منافق، فلما توجه قلبه إلى هذا الظن وأراده ورضيه؛ قال تعالى: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]، والظن محله القلب، فهو لم يتحدث به ولم يتكلم به، ومن هنا عُلم وجه قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها)، فالحديث ليس فيه الشيء الذي تحدث به النفس.

ومع قولهم أن هناك نصوصاً أخرى تدل على أن أعمال القلوب المتوجهة معتبرة، ويؤاخذ بها العبد، إلا أن هناك مسائل دلت النصوص على أنه لا بد فيها من الظاهر، فلا يكفي مجرد التوجه ولو حصلت العزيمة، يقول تعالى عن الحرم: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25] أي: بالإرادة، وصدق التوجه، كأن يريد الزنا، أو شرب الخمر، أو فعل المحرمات، أو أذية الجار، ويتوجه إلى ذلك؛ لأنه لا يكون مريداً له إلا إذا عزم عليه، وصدق في توجهه إليه، ومن هنا وقع في الذي يعتبر من أعمال القلوب المؤاخذ عليها.

لكن هناك فرق -وهي نقطة دقيقة جداً- بين أن نقول: إنه مؤاخذ عليه بعملٍ قلبي، وبين أن نقول: إنه مؤاخذ على العمل بذاته، فمثلاً من حدثته نفسه أن يزني، وتوجه إلى الزنا وعزم عليه، أو حدثته نفسه بجرمٍ في مكة، وتوجه في نفسه إليه؛ فهذا خطأ قلبي، ويصبح مسيئاً بقلبه، وتلتصق به الجناية بعمل القلب، كما قال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان)، والأصل أن الجريمة ما وقعت لكنه أسند الرضا بالجريمة وفعل وعمل شيئاً مسنداً إلى العين، مثلما أن العين إذا نظرت صارت زانية، كذلك القلب إذا حدث ورضي هذا الفعل كما قال: (والقلب يهوى ويتمنى) فشركه في الحكم، فإذا حصل هذا من القلب، فهو عملٌ قلبي، والعقوبة نسبية لهذا العمل القلبي، وحينئذٍ تكون المؤاخذة على الظاهر ليست كالمؤاخذة على الباطن، والإثم على الظاهر ليس كالإثم على الباطن، وهذا الذي جعل بعض العلماء يقول: من جامع زوجته وهو يتخيل أجنبية أثم، ومن شرب عصيراً مباحاً حلالاً وهو يتخيل كأنه يشرب الخمر أثم، أي: أثم بالعمل القلبي؛ لأنه يريد هذا ويحبه كما قال صلى الله عليه وسلم: (والآخر يقول: لو أن عندي مثل مال فلان؛ لعملت مثل عمله) فجعل التمني كالفعل، فهذا كله يدل على أن التوجه للمعاصي وصدق العزيمة إليها؛ عملٌ قلبي يؤاخذ به العبد، لكنها مؤاخذة نسبية، وحينئذٍ لا تعارض بين النصوص ولا تعارض بين مسألة العمل القلبي والظاهر.

ومما أنصح به طالب العلم المتمكن أن يرجع إلى الموافقات للإمام الشاطبي في مبحثه النفيس في المقاصد، وذلك أنه قسم فاعل الفعل وتاركه إلى قسمين:

إما أن يكون موافقاً أو مخالفاً، فإن كان موافقاً أو مخالفاً فإما أن يوافق ظاهراً وباطناً، أو يخالف ظاهراً وباطناً، وإما أن يوافق ظاهراً ويخالف باطناً، وإما أن يخالف ظاهراً ويوافق باطناً، وهذا كله فيه تفصيل، وكلام كثير للعلماء رحمهم الله، فمسألتنا هذا من حصول المخالفة الباطنية دون وقوع المخالفة الظاهرية، وعلى كل حال فالأصل يقتضي أننا لا نؤاخذه المؤاخذة التامة الكاملة إلا باجتماع الظاهر والباطن فيما اشترط الشرع فيه الظاهر والباطن، وقولك: إن النية في مكة مؤثرة ليس على إطلاقه، والله تعالى أعلم.

كلمة توجيهية لزائري مكة للعمرة والتعبد في مسجدها

السؤال: في أيام الإجازة يكثر الزائرون والمعتمرون، فهل من كلمة توجيهية تذكر بفضل مكة وفضل العبادة بها؟

الجواب: هناك بيتان لطيفان جمعا المراتب الخمس المذكورة، يقول الناظم:

خواطر القلب خمسٌ هاجسٌ ذكروا فخاطرٌ فحديث النفس فاستمعا

يليه هم فعزمٌ كلها رفعت سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أذن المؤذن تولى الشيطان وله ضراط)، أثناء الإجابة كنت أحاول أن أتذكر البيتين فما تذكرتهما إلا أثناء الأذان، وهذا من عجائب السنة.

هذان البيتان يقول فيهما الناظم:

(خواطر القلب خمسٌ هاجسٌ ذكروا) يعني: أولها الهاجس، (فخاطرٌ فحديث النفس فاستمعا) ثلاثة: الهاجس، الخاطر، حديث النفس، (يليه هم فعزم كلها رفعت) يعني: ما فيها مؤاخذة لا بإثم ولا بعقوبة، (سوى الأخير) الذي هو العزم، (ففيه الأخذ قد وقعا).

وهذا على اختيار المحققين، قال بعض مشايخنا رحمه الله:

وما عليه عزم الثواب فيه وكذا العقاب

ما ذكرت -أخي السائل- أمرٌ عظيم، هنيئاً ثم هنيئاً لمن وطئ بلد الله الحرام، واستشعر حرمته، وعلم علم اليقين أن الله فضله وشرفه وكرمه، هنيئاً لمن وطئ هذه الرحاب الفاضلات الطيبات المباركات، فخشع لله قلبه، وذرفت من خشية الله عيناه.

مكة وما أدراك ما مكة! البلد الأمين، الذي أقسم به رب العالمين من فوق سبع سماوات؛ تعظيماً له في الحرمات، وتذكيراً لعباده وإمائه من المؤمنين والمؤمنات، هذا البلد الأمين -الذي شرفه الله وفضله- أحب البقاع إلى الله، وجعل له الحرمة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة، ولم يحرمها الناس)، حرمها من فوق سبع سماوات.

في هذه الرحاب الطاهرات المباركات؛ خشعت قلوب المؤمنين والمؤمنات، ولا يستشعر عبدٌ فضلها، ولا عظيم شأنها، إلا أصابه الخير وكان من أسعد الناس.

هذا البلد الأمين شعت منه أنوار الرسالة، فأضاءت بها مشارق الأرض ومغاربها، من هنا ناجى ربك عبده وخليله وحبيبه صلوات ربي وسلامه عليه: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:1-5].

من هنا أعلنت مبادئ الإسلام، من هنا كانت مآثره الجليلة العظام.

مكة وما أدراك ما مكة! هي مكة وبكة، بكت أعناق الجبابرة، وقصمت ظهور الأكاسرة، فكم قصدها من جبار فقصمه الله في جبروته؟

قال عبد المطلب لـأبرهة : أما البيت فله رب يحميه، فكل من أتى هذه الرحاب، وحل بهذا النادي المبارك، واستشعر أنه في أحب البقاع إلى الله عز وجل فراعى الحرم والحرمة، وتذكر كيف أن الله سبحانه وتعالى جعله بساطاً للأمان، حتى الشجر يأمن، كما في الحديث: (لا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاها)، والطير في الهواء له أمان، فما بالك بالمؤمن؟ قال صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم مكة: (أيها الناس! إن الله حرم مكة، ولم يحرمها الناس، وإنها لم تحل لأحدٍ قبلي، ولن تحل لأحدٍ بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ورجعت حرمتها اليوم كما كانت حرمتها بالأمس، لا يعضد شوكها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها إلا لمنشد)، من يستشعر هذه الأمور العظيمة التي نبه عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ من يدخل هذا البلد الأمين معتمراً أو زائراً أو مجاوراً ويستشعر أن الله سبحانه وتعالى اختاره من هذه الملايين المسلمة لكي يكون ضيفاً عليه في بيته؟

لو أن الإنسان وهو قادمٌ في عمرته يحس أنه ضيفٌ على الله، والضيف يكرم ولا يهان، ويعطى ولا يمنع.

في هذه الرحاب الطاهرات الطيبات المباركات كم من ذنوبٍ غفرت، وكم من دعوات استجيبت، وكم من هموم فرجت، وكم من كربات نفست، وكم من درجات رفعت؟

هنا بكى المؤمنون والمؤمنات، وهنا خشع المؤمنون والمؤمنات، وهنا أناب المنيبون، وتاب التائبون، واعترف المذنبون، واستغفر المستغفرون، واسترحم المسترحمون.

من هنا صدر أناسٌ جاءوا بهمومهم، فرجعوا كيوم ولدتهم أمهاتهم، بلا همٍ ولا غم ولا ذنب، منازل شرفها الله، وكرمها، وفضلها، حتى إن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ذكَّر المؤمنين بفضلها، وعظيم قدرها، فدخل يوم فتح مكة في يومٍ أعز الله فيه جنده، ونصر عبده، وصدق وعده، دخل عليه الصلاة والسلام وقد طأطأ رأسه حتى أن لحيته تمس قربوس سرجه صلوات الله وسلامه عليه تواضعاً لله، وإعظاماً لهذه الحرمة التي حرمها الله.

هنيئاً لمن يدخل مكة يوم يدخلها وهو يستشعر أنه في مكانٍ عظيم اختاره ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض.

قف أمام بيت الله عز وجل، وانظر كيف اختاره الله لأعز الأشياء وأشرفها، وقت مناجات العبد لربه في الصلاة، يتوجه إلى هذا البيت إيماناً وتسليماً موحداً لله مخلصاً، أي شرف أعظم من هذا الشرف! فيتوجه إلى هذا البيت موحداً لله، معظماً لله، سائلاً الله من فضله.

يقول بعض العلماء: عجبت من قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء:5]، وفعلاً المال تقوم به حياة الإنسان، وهذه سنة كونية جعلها الله سبحانه مؤثرة بتأثير الله عز وجل، وقال في بيته: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ [المائدة:97]، ففي هذه الكلمة (قياماً للناس) من المآثر الدينية والدنيوية والأخروية ما لا يعلمه إلا الله عز وجل.

يأتي العبد محملاً بالذنوب والخطايا، تائباً إلى الله، صادقاً مع الله عز وجل في توبته، فيأتي إلى الله معتمراً، فلا يبرح أن يطوف شوطه الأول فينفض من معاصيه كيوم ولدته أمه، ويأتي العبد مهموماً مغموماً مكروباً، قد أحاطت به الهموم في أهله وولده وماله، فيأتي إلى ربه منيباً إلى الله ضيفاً على الله، يشتكي إلى ربه، قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فلم يجد له أحداً يغيثه ولا أحداً يعينه، وقد يئس من كل أحد، لكنه لم ييأس من ملك الملوك، ومن جبار السماوات والأرض، إله الأولين والآخرين، فيأتي إلى هذا البلد الأمين مؤمناً بالله، متوكلاً على الله، واثقاً بالله، والهموم تهزه، وتضيقه، وتضعف قوته، وتذهب حوله، حتى إذا وقف أمام البيت، وطاف بالبيت، وسبح الله وكبره وهلله وعظمه، وسأل الله صادقاً من قلبه؛ فكأن لم يكن به شيء من ذلك، وإذا بتلك الهموم والغموم تحل مكانها السكينة والأمن والأمان، وإذا بالضعف قوة، وإذا بالذلة عزة، وإذا بالمهانة كرامة، وإذا بالفقر غنىً بالله سبحانه وتعالى.

وكم وكم! حتى أن المرأة المكروبة أم إسماعيل ضاقت عليها الأرض بما رحبت، وهي مع طفلها وفلذة كبدها ليس لها منجٍ إلا الله وحده لا شريك له، وترقى الصفا، وتسعى بين الصفا والمروة، تسعى وتخب لنجاة ولدها، ونجاة نفسها بإذن ربها، ويجعل الله تفريج كربها في هذه البقاع الطاهرات، وفي هذه المنازل الطيبات المباركات.

هنيئاً ثم هنيئاً لمن دخل البيت الحرام مؤمناً بالله كامل الإيمان، هنيئاً لمن يأتي في الحج والعمرة وهو يستشعر في كل لحظة، وكل ثانية؛ أنه ضيف على الله، يرجو رحمة الله، ويتذكر كم من أكف رفعت؟ وكم من عطايا منحت؟ وكم من دعوات استجيبت؟ وكم وكم؟ فلم تزد الله إلا كرماً وجوداً سبحانه وتعالى.

فإذا استشعر الإنسان هذا الفضل الذي جعله الله لبيته ولحرمه، فعندها تطيب نفسه بالله، ويقنع بما عند الله سبحانه وتعالى، ويرجو كرم الله وفضله، وكم من قصص للسلف الصالح الأولين والآخرين!

آه ثم آه لو أذن لهذه البقاع أن تتحدث، فكم من دعوات استجيبت فيها! كم من صيحات وآهات وأنات فرجها الله عن المؤمنين والمؤمنات!

آه كيف لو أذن لهذه البقاع أن تتحدث بعظمته وجبروته، وعزه وملكوته، واستجابته ورحمته سبحانه وتعالى!

آه لو قدر الناس قدر ربهم سبحانه، وأنى يستطيع الإنسان أن يقدر الله حق قدره!

ولكننا في غفلة، طغت علينا الدنيا، فيدخل الإنسان مكة، ويخرج منها، ولا يستشعر هذه المعاني!! ولا يحس بهذه الأحاسيس!! فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإلى الله المشتكى من هذه الغفلة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحم ضعفنا فيها، وأن يرزقنا إياها بالتفكر والاتعاظ.

إلى كل مؤمن ومؤمنة نزل بهذا الحرم أن يتقي الله في نفسه، وأن يتقي الله في بلد الله الحرام، وإذا جاء بأسرته وأولاده وعائلته فعليه التذكر أن الله سائله عنهم، وأنه جاء للحسنات، والباقيات الصالحات، وأنه جاء يرجو رحمة الله، فيحكم زمام أولاده وأسرته، ويجعلهم مستقيمين على طاعة الله وذكره وشكره، ويذكرهم في كل لحظة، ويقرع مسامعهم بحرمة البيت، وحرمة المكان، عل الله عز وجل أن يعينهم فيه على ذكره وشكره وحسن عبادته.

كل من جاء ضيفاً إلى هذا المكان، عليه أن يتفقد أولاده وزوجه وإخوانه وأخواته، وهذا أمر مهم جداً.

وعلى الخطباء والأئمة أن ينبهوا الناس بهذه الحرمة لا سيما في هذه الإجازات، وأن يرحبوا بمن جاء ضيفاً إلى هذا البلد، وأن يهنئوه بفضل الله عز وجل عليه، ويذكروه بالحرم والحرمة، ويذكروه بفضل هذا المكان الطيب المبارك فلا يدنسه بمعاصيه، ولا يفلت عليه أبناؤه وبناته فيرتعوا في حدود الله، فتأتيهم نكبة من الله عاجلة أو آجلة، فلا يأمن أن يرجع بهم إلى بيته وداره من عاجل نقمة ربه به وبولده.

فعلى الإنسان أن يخاف من الله عز وجل، وأن يفزع من الله إلى الله عز وجل، وهناك حوادث تشيب من هولها الرءوس، أناسٌ مكروا وفجروا واستهانوا بحرمة البيت -خاصة ممن أتى من خارج مكة- فما تركهم الله، ولم يمهلهم الله عز وجل، ويحكى أن بعضهم خرج من حدود الحرم فلما نزل بعرنة وهي في آخر حد الحرم؛ حشره البول -أكرمكم الله- فنزل عن بعيره ليقضي حاجته، فجاءته حية فلسعته في ظهره، فقصم الله ظهره بما كان من فجوره، وما أمهله الله حتى يرجع إلى داره، فخر ميتاً في مكانه.

هذا بلد عظيم، وحرمته عظيمة، ومن أعظم ما يكون من العقوبة لمن فجر فيه أن يحرم الإنسان العودة إلى مكة، وهناك لله سنن، وهذه أشياء قد تعرف بالحوادث؛ لأن الله عز وجل يقول: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183] فمن الناس من يفجر في الحرم، فيبتليه الله عز وجل بحرمان الرجوع إلى مكة، وقد لا يعود إليها أبداً، فيعاجله الله بعقوبة الدنيا قبل الآخرة، وهذه من أعظم العقوبات أن يحال بينه وبين بلد الله، ومنهم من كان خاشعاً في طوافه فحرم الخشوع في طوافه، وسلب منه الخشوع، ومنهم من كان متأثراً في حجه فيسلب ذلك، فعلى الإنسان أن يتفقد نفسه، فإذا وطأ هذا الحرم تفكر في حرمته، وعظيم قدره عند الله عز وجل.

ونسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا فيه كمال الأدب، وأن يرزقنا فيه صدق الخوف، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.

حكم رفع اليدين بين الأذان والإقامة للدعاء

السؤال: ما حكم رفع اليدين بين الأذان والإقامة للدعاء؟

الجواب: رفع اليدين من مضان الإجابة، وفيه خمسون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين صحيح وحسن وضعيف قابل للانجبار، وفي الصحيحين أحاديث واضحة ما فيها إشكال تدل على مشروعية رفع اليدين في الدعاء، ولكن يتوقف في العبادات التوقيفية على الوارد.

أما إنسان أصابه كرب فرفع كفه إلى الله، واستغاث بالله، ونادى ربه مستغيثاً مسترحماً سائلاً له من فضله؛ فإنه لا ينكر عليه، والسنة دالة على هذا، بل نص الأئمة على أن من أسباب إجابة الدعاء رفع اليدين، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب!) يقول الحافظ ابن حجر : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أسباب؛ لأنه يريد أن يبين أن المطعم الحرام يرد الدعوة، فجاء بأبلغ أحوال العبد الداعي، حتى يبين أن الله قد لا يستجيب الدعاء مع هذا الاسترحام، ومع هذه الوقفة العظيمة التي قل أن يخيب الله فيها عبده، وهذه الأسباب هي:

السبب الأول: أشعث أغبر، بمعنى: رثاثة الحال، أي: أنه ليس من أهل البذخ، ولذلك قال في الحديث الصحيح الآخر: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوعٍ على الأبواب لو أقسم على الله لأبره) ورثاثة الحال ليس المراد بها أن الإنسان ما يلبس الطيب، ولا يعتني بمنظره، لكن الإنسان قد لا يكون عنده مال، فتأتيه الرثاثة دون تكلف، ودون تنطع، ودون مبالغة في التزهد، تأتيه طبيعة وسجية، أو يكون عنده مال ولكن يلبس الحال الذي يليق به في أوساط الناس دون مبالغة.

السبب الثاني: إطالة السفر، قالوا: وكلما بعد السفر كان رجاء الإجابة للدعاء أقرب، والمسافر مستجاب الدعوة حتى يعود إلى أهله، رحمة من الله؛ لأن السفر قطعة من العذاب، فالمسافر مستجاب الدعاء، فإذا طال سفره كان أرجى لإجابة دعوته.

السبب الثالث لإجابة الدعاء: قوله عليه الصلاة والسلام: (يمد يديه إلى السماء) فهذا يدل على مشروعية رفع اليدين في الدعاء.

وفي الصحيح في قصة عبيد بن مالك الأشعري رضي الله عنه لما أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم في سرية، ورمي بسهم فقبل أن يموت قال لـأبي موسى الأشعري : (أقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام وقل له: يدعو لي، قال أبو موسى رضي الله عنه: فلما أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم خبره، قام فاستقبل القبلة، ورفع كفيه إلى السماء وقال: اللهم! اغفر لعبيدك أبي عامر ، واجعله فوق كثير من خلقك يوم القيامة)، فرفع عليه الصلاة والسلام يديه.

والأحاديث في رفع اليدين كثيرة، وكما ذكرنا أنها قرابة خمسين حديثاً ما بين صحيح وحسن وضعيف ينجبر، فالسنة رفع اليدين، فإذا رفعها بين الأذان والإقامة فلا حرج، ولا بأس، ومن تحرى السنة في هذا لا ينكر عليه.

لكن هل الأفضل أن يكون دعاؤه داخل صلاة النافلة والراتبة أو يكون بعد الصلاة؟

الجواب: إذا كان الإنسان يصلي الراتبة فليدعو فيها، ثم إذا خاف إقامة الصلاة فسلم، وبقي وقت، وأراد أن يدعو ورفع كفيه؛ فإنه لا بأس بذلك.

ونسأل الله بعزته وجلاله ونحن في هذا الوقت المبارك بين الأذان والإقامة أن يرحم ضعفنا، وأن يجبر كسرنا، وأن يتولانا بما تولى به عباده الصالحين!

اللهم! إنا نسألك بعظمتك ورحمتك ولطفك بخلقك، وقد عظمت الفتن والمحن، وأنت أعلم بما ظهر منها وما بطن.

يا حي يا قيوم! نسألك بعزتك وجلالك أن ترحم غربتنا، اللهم! ارحم غربتنا في هذا الزمان، والطف بنا يا رحيم يا رحمان، اللهم! ثبتنا على الدين الذي يرضيك عنا، واختم لنا بخير.

اللهم! فرج عن إخواننا المسلمين المضطهدين في كل زمان ومكان، اللهم! فرج عن إخواننا في فلسطين، اللهم! اجعل لهم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، اللهم! ثبت أقدامهم، اللهم! سدد سهامهم، اللهم! صوب آراءهم.

اللهم! عليك بأعداء الدين حيثما كانوا، اللهم! زلزل عروشهم، اللهم! صدع بنيانهم، يا حي يا قيوم! خذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، اللهم! اسلبهم عافيتك، واشدد عليهم وطأتك، وأنزل عليهم بأسك ولعنتك، إله الحق، يا حي يا قيوم! إنهم طغوا وبغوا، اللهم! فعليك بهم فإنهم لا يعجزونك.

اللهم! من لليتامى والأرامل والضعفاء المضطهدين المشردين في مشارق الأرض ومغاربها من عبادك المسلمين.

اللهم أغثنا وأغثهم يا حي يا قيوم! وأغث كل مسلم ومسلمة يا حي يا قيوم! يا أرحم الرحمين!

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3704 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3620 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3441 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3374 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3339 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3320 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3273 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3228 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3186 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3169 استماع