شرح زاد المستقنع كتاب العدد [7]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: يلزم الإحداد مدة العدة كل متوفى زوجها عنها في نكاح صحيح ولو ذمية أو أمة أو غير مكلفة].

شرع المصنف -رحمه الله- في بيان أحكام الإحداد، والإحداد هو: عدة المرأة التي توفي عنها زوجها، فهي عدة تختص بالوفاة، وتختص بنوع من النساء، وأصل الحد: المنع، ومنه سمي البواب حداداً؛ لأنه يمنع الغير من الدخول، والإحداد يمنع المرأة من الزينة، ومما ينبغي على المحتدة أن تجتنبه: الطيب، والحلي، ومحاسن الثياب، والخروج من البيت على تفصيل سيأتي -إن شاء الله- بيانه.

الإحداد ثبتت مشروعيته بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة:

الأدلة من الكتاب

وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فهذه الآية الكريمة أصل عند العلماء -رحمهم الله- في ثبوت الإحداد وعدة الوفاة على المرأة التي توفي عنها زوجها، وهي خبر بمعنى الإنشاء -كما سيأتي- أي: أنها تضمنت الدلالة على وجوب الإحداد ولزومه.

الأدلة من السنة

وأما من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فأحاديث كثيرة:

منها: حديث أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها وعن أبيها: أنه لما توفي أبوها أبو سفيان رضي الله عنه وأرضاه أخذت طيباً فطيبت جارية عندها، ثم مست من ذلك الطيب، وقالت: ((والله مالي بالطيب من حاجة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً)) ، فهذا الحديث المتفق عليه أصل عند العلماء -رحمهم الله- في مشروعية الحداد.

وهناك أحاديث أخر تتضمن الدلالة على مشروعيته كحديث أم سلمة في الصحيحين، وحديث سبيعة بنت الحارث الأسلمية رضي الله عنها في الصحيحين أيضاً في قصتها مع سعد بن خولة رضي الله عنه وأرضاه حينما توفي فدخل عليها خالها أبو السنابل بن بعكك رضي الله عنها وعنه. والأحاديث في مشروعية الحداد كثيرة.

ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الحداد مشروع بهذه السنة على التفصيل الذي سنبينه.

ومرادهم: الحداد الأعلى، وهو أن تحد أربعة أشهر وعشراً، وأما الإحداد ثلاثة أيام فيجوز للمرأة إذا توفي أبوها أو أخوها أو قريبها أن تحد؛ لأن أم حبيبة حدت على أبيها أبي سفيان وامتنعت من مس الطيب إلا بعد تمام الثلاثة الأيام.

الإجماع

أما بالنسبة للإجماع: فقد أجمع العلماء -رحمهم الله- على أنه يشرع للمرأة أن تحدّ على الميت أربعة أشهر وعشرة أيام، وهي المدة التي سمى الله عز وجل في كتابه، وبيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح من سنته.

ومناسبة الإحداد لعدة الطلاق واضحة؛ لأنه بعد أن فرغ المصنف -رحمه الله- من بيان عدة الطلاق شرع في بيان عدة الوفاة، فيجتمع الحداد مع عدة الطلاق في كون كل منهما عدة، فالأولى بسبب الطلاق والفراق في حال الحياة، والثانية متعلقة بالفراق الذي لا اختيار فيه، وهو فراق الموت.

وذلك أن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فهذه الآية الكريمة أصل عند العلماء -رحمهم الله- في ثبوت الإحداد وعدة الوفاة على المرأة التي توفي عنها زوجها، وهي خبر بمعنى الإنشاء -كما سيأتي- أي: أنها تضمنت الدلالة على وجوب الإحداد ولزومه.

وأما من سنة النبي صلى الله عليه وسلم فأحاديث كثيرة:

منها: حديث أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها وعن أبيها: أنه لما توفي أبوها أبو سفيان رضي الله عنه وأرضاه أخذت طيباً فطيبت جارية عندها، ثم مست من ذلك الطيب، وقالت: ((والله مالي بالطيب من حاجة، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً)) ، فهذا الحديث المتفق عليه أصل عند العلماء -رحمهم الله- في مشروعية الحداد.

وهناك أحاديث أخر تتضمن الدلالة على مشروعيته كحديث أم سلمة في الصحيحين، وحديث سبيعة بنت الحارث الأسلمية رضي الله عنها في الصحيحين أيضاً في قصتها مع سعد بن خولة رضي الله عنه وأرضاه حينما توفي فدخل عليها خالها أبو السنابل بن بعكك رضي الله عنها وعنه. والأحاديث في مشروعية الحداد كثيرة.

ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أن الحداد مشروع بهذه السنة على التفصيل الذي سنبينه.

ومرادهم: الحداد الأعلى، وهو أن تحد أربعة أشهر وعشراً، وأما الإحداد ثلاثة أيام فيجوز للمرأة إذا توفي أبوها أو أخوها أو قريبها أن تحد؛ لأن أم حبيبة حدت على أبيها أبي سفيان وامتنعت من مس الطيب إلا بعد تمام الثلاثة الأيام.

أما بالنسبة للإجماع: فقد أجمع العلماء -رحمهم الله- على أنه يشرع للمرأة أن تحدّ على الميت أربعة أشهر وعشرة أيام، وهي المدة التي سمى الله عز وجل في كتابه، وبيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح من سنته.

ومناسبة الإحداد لعدة الطلاق واضحة؛ لأنه بعد أن فرغ المصنف -رحمه الله- من بيان عدة الطلاق شرع في بيان عدة الوفاة، فيجتمع الحداد مع عدة الطلاق في كون كل منهما عدة، فالأولى بسبب الطلاق والفراق في حال الحياة، والثانية متعلقة بالفراق الذي لا اختيار فيه، وهو فراق الموت.

وشرع الله جل وعلا هذا النوع من العدة لحكم عظيمة وأسرار كريمة تنتظم بها مصالح الدين والدنيا والآخرة، فالمرأة إذا فقدت بعلها وفارقت زوجها وبقيت في بيت الزوجية هذه المدة التي سمى الله جل وعلا تذكّرت حق بعلها عليها، فإن كان قد أحسن إليها كان ذلك أدعى أن تترحم عليه، وأن تحفظ وده، وأن تحفظ ما بينها وبينه من العهد، فتذكره بصالح الدعوات، وتسأل الله جل وعلا أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات، وفي ذلك من الأجر العظيم والثواب الكريم لها ولبعلها ما لا يخفى.

كذلك أيضاً: فيه حفظ لحق المسلم الميت، فليست أمة الإسلام أمة ضعيفة تنتهي أواصرها ومحبتها وأخوتها ووشائجها بالموت والفراق كما يحدث لأهل الدنيا، فشرع الله جل وعلا هذا الحداد، فأمر المسلمين أن يذكروا حق الميت المسلم، ومن هنا عَظَّم حق الزوجية، حتى إن الزوج إذا فارق زوجته لا يُنسى الحق الذي له مباشرة، فلو تصورنا أن المرأة بعد وفاة زوجها تنكح في اليوم الثاني أو تنكح بعده بيسير لتناسى الناس حقوق أمواتهم.

ثم انظر إلى الوسطية، فلم يجعل الإسلام هذا الحداد حزناً دائماً، ولم يجعله منقطعاً مخالفاً للفطرة، ولكن جاء بالوسط العدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وكان أهل الجاهلية يمكثون عاماً كاملاً، فإذا توفي الرجل عن امرأته دخلت المرأة في مكان وهو حش صغير أشبه بـ(الصندقة)، أو أضيق مكان في البيت، تدخل فيه ثم تمتنع من جميع ما أحل الله عز وجل إلا أكلها، فتبقى في تفثها وشعرها وسوء حالها بالحالة المزرية، لا تغتسل ولا تمس الطيب، وبأبشع الأحوال وأشدها حتى تتم سنة كاملة، ثم بعد ذلك تفتض ببعرة كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (وقد كانت إحداكن تجلس حولاً كاملاً في حشها حتى يبلغ الكتاب أجله، ثم تفتض ببعرة) فخفف الله سبحانه وتعالى ويسر، فأحل لها الطيبات، ولكن منعها من الزينة، ومنعها من الحلي، ومنعها من التجمل في جسدها وثيابها، فأبقى حق الزوج، وكذلك أيضاً لم يضيق على الزوجة مع أنها تثاب وتؤجر على هذا الامتناع والطاعة لله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام؛ لامتثال الأمر بالإحداد واجتناب ما نهيت عنه المرأة المحتدة، فالمقصود: أن الحداد فيه حكم عظيمة وأسرار كريمة.

كذلك أيضاً: لا يسع المؤمن إلا أن يسلم أمره إلى الله عز وجل ورسوله، فالمدة التي سماها الله عز وجل أربعة أشهر وعشراً قال بعض العلماء: لو كانت حاملاً يتبين حالة الجنين خلال هذه المدة التي هي الأربعة أشهر وعشراً، وقالوا: (لأنه يجمع خلق الإنسان أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك، فيؤمر بنفخ الروح وكتابة أجله ورزقه، وشقي هو أو سعيد) كما في حديث ابن مسعود في الصحيح، فقالوا: إن هذا النفخ يقع في العشرة الأيام التي تلي الأربعة الأشهر، فإن الأربعة الأشهر -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم- مائة وعشرون يوماً، وهي تمام ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأربعين، ثم الأربعون، ثم الأربعون، ثم تأتي العشر، ذكر هذا بعض أهل العلم رحمة الله عليهم، ولكن مع هذا الله يأمر ويحكم، ورسوله صلى الله عليه وسلم يبلغ، وما علينا إلا الرضا والتسليم.

يقول رحمه الله: (يلزم الإحداد). وهذه العبارة تدل على مشروعية الحداد أولاً، والحداد المشروع: هو حداد المرأة المتوفى عنها زوجها، وأما محدثات الجاهلية في الإحداد مما يحدثه الناس سواء كان ذلك على مستوى الأمم والشعوب أو الجماعات فهذا مما لا أصل له في دين الله، ولا في شرع الله عز وجل، فليس هناك حداد إلا الحداد الذي سمى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يشرع حداد غير هذا الحداد الذي ورد النص به في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم إن الحداد يكون للنساء ولا يكون للرجال، ولا يكون بين أفراد الرجال، حتى لا تعطل المصالح اليومية، هذا كله مما يحدثه الناس بخلاف شرع الله عز وجل، ولا يمكن أن يعد ذلك من دين الله في شيء؛ لأنه لم يثبت به شرع ولم يثبت به نص في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة إذا أصبح أمراً ظاهراً، فإن الواجب تبيين حكمه إعذاراً إلى الله سبحانه وتعالى، وأن هذا مما أحدثه الناس، ومما لا أصل له في دين الله وشرعه.

والحداد يشرع للمرأة إذا كان قد توفي عنها زوجها، أو توفي قريبها إذا كانت مدة الحداد عليه المدة التي ذكرناها وهي الثلاثة الأيام.

قوله: (يلزم) أولاً يدل على مشروعية الحداد كما ذكرنا.

وثانياً: أن هذه المشروعية على سبيل الوجوب، فالمرأة يجب عليها الحداد، وهذا بإجماع السلف والخلف رحمهم الله، خلافاً للحسن البصري والأوزاعي رحمة الله عليهما، فهذان العالمان الجليلان قالا بعدم وجوب الإحداد، والصحيح ما ذهب إليه أئمة السلف ودواوين العلم، ولكن لعل الإمام البصري والأوزاعي لم يبلغهما ما ورد صريحاً في السنة من الأمر بالحداد، فقد يكونا قد قالا بمشروعيته لظاهر القرآن: (يتربصن) دون أن يفهما منه اللزوم، ولكن السنة أمرت وألزمت بالحداد وأوجبته، فالواجب العمل بهذه السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كذلك أيضاً في قوله: (يلزم الحداد) الحداد هو: اجتناب المرأة التي توفي عنها زوجها الطيب وزينة اللباس وما في حكمهما مدة معلومة، وبناء على ذلك فحقيقته الشرعية: اجتناب مخصوص -وهو اجتناب الطيب، ومحاسن الثياب والحلي، والزينة في البدن وفي الملبس- من شخص مخصوص -والمراد به: المرأة التي توفي عنها زوجها، فلا يشمل غيرها كما سيأتي إن شاء الله- مدة مخصوصة. وهي أربعة أشهر وعشرة أيام على ما بينته السنة إلا إذا كانت حاملاً، فالمدة هي إلى وضع الحمل، فلو أنها بعد وفاة زوجها بدقيقة واحدة وضعت حملها خرجت من عدتها؛ وذلك لصريح حديث سبيعة بنت الحارث رضي الله عنها: (أنها توفي عنها سعد بن خولة وهو بمكة رضي الله عنه وأرضاه، فمكثت بعده -قيل: عشرة أيام، وقيل: ثمانية أيام، وقيل غير ذلك- فوضعت ما في بطنها، فتجملت وتزينت، فدخل عليها خالها، وقال لها: لا والله ما أنت بحل للأزواج حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت: فجمعت علي ثيابي، وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأخبرني أني قد حللت منذ أن وضعت ما في بطني)، فهذا نص واضح يدل على أن مدة الحداد تكون أربعة أشهر وعشراً على الأصل بنص كتاب الله: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، وكذلك حديث أم سلمة في الصحيحين: (تحد المرأة على ميتٍ أربعة أشهر وعشراً) فهذا يدل على أن المدة إما أربعة أشهر وعشراً على الأصل، أو إلى وضع الحمل ولو طالت مدته على حديث سبيعة بنت الحارث رضي الله عنها وأرضاها.

قال رحمه الله: [يلزم الإحداد مدة العدة كل متوفى زوجها عنها].

(مدة العدة) العدة هنا: عدة الوفاة، وهي -كما ذكرنا- أربعة أشهر وعشراً، أو مدة وضع الحمل، لكن هناك من العلماء من يرى الحداد للمطلقة طلاقاً بائناً، ويرى عليها الحداد مدة العدة من طلاقها، والصحيح: أن الحداد يختص بعدة الوفاة فقط، ودليلنا على هذا ما ثبت في السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث -وفي لفظ آخر: فوق ثلاثة أيام- إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) فقال: (لا يحل) فدل على أن الحداد لا يجوز إلا في عدة الوفاة فقط، فاجتهاد بعض العلماء بأن المطلقة طلاقاً بائناً تقاس على المعتدة عدة الوفاة ضعيف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تفعل هذا الفعل إلا في عدة الوفاة، فدل على اختصاص الفعل بعدة الوفاة، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.

(كل متوفى زوجها عنها).

أي: كل امرأة توفي عنها زوجها، وبناء على ذلك: فإن الرجل بالإجماع لا يحتد، ويختص الحداد بالنساء كما ذكرنا، وكذلك أيضاً (كل متوفى) يشمل الصغيرة والكبيرة، وبناء على ذلك: لو كانت التي توفى عنها زوجها صغيرة وعمرها تسع سنوات -مثلاً- ولم تحض بعد، فإنها تلزمها عدة الوفاة، لحديث معقل بن سنان الأشجعي رضي الله عنه وأرضاه في قصته مع عبد الله بن مسعود رضي الله عن الجميع، فقد ذكر قضاء النبي صلى الله عليه وسلم في عدة الوفاة للمرأة المعقود عليها.

إذا ثبت هذا فالمرأة الصغيرة تعتد عدة الوفاة، ودليلنا على ذلك: عموم قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) والمرأة الصغيرة داخلة في هذا الأصل.

كذلك أيضاً من الأدلة: ما ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو حديث عن أم سلمة رضي الله عنها، والحديث في الصحيحين-: (أن امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها وهي تشتكي عينيها، أفنكحلهما؟ قال: لا، لا، مرتين أو ثلاثاً) وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسألها هل ابنتها بلغت أم لم تبلغ، (وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال) خاصة أن المرأة إذا سألت وقالت: إن ابنتي. الغالب أنها تكون دون البلوغ؛ لأنها لو كانت كبيرة لأتت البنت بنفسها وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الحديث أصل في أن الحداد للصغيرة والكبيرة، وهذا مذهب جمهور العلماء، ولذلك هو حق -فيه معنى الحق- للزوج، والصغيرة لزوجها عليها حق.

ثانياً: أنها ترث من الزوج، والأصل حديث معقل ، وعدة الوفاة في الأصل مرتبطة بالإرث، فقوله: (كل امرأة) يدل على أن المرأة إذا كانت صغيرة تلزم بعدة الوفاة.

من الذي يأمرها بعدة الوفاة ويراقبها؟

وليها، يقوم وليها عليها، ويجنبها ما تجتنبه المعتدة، مثل الصغير إذا حج أو اعتمر فإنه يقوم وليه بمنعه من محذورات الإحرام.

كذلك أيضاً في قوله: (كل) عموم؛ لأن (كل) من ألفاظ العموم، فشمل هذا اللفظ المرأة المسلمة والكتابية؛ لأن المسلم يحل له نكاح الكتابية اليهودية والنصرانية بشرط أن تكون حرة، ولا يجوز له أن ينكح بالعقد إماء أهل الكتاب، وهو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله؛ لأن الله تعالى يقول: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ [النساء:25]، فاشترط في الرقيقة التي تنكح: عدم الطول، واشترط فيها خوف الزنا، واشترط أن تكون من الفتيات المؤمنات، فدل على أن الكتابية لا يجوز نكاحها إذا كانت أمة.

إذاً: المسلم لا يموت إلا عن زوجة مسلمة أو كتابية التي هي اليهودية أو النصرانية، فإذا توفي عن امرأة يهودية أو نصرانية عقد عليها فإنها يلزمها الحداد، واختلف العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة، فمنهم من قال: اليهودية والنصرانية لا يلزمها الحداد إذا توفي زوجها المسلم، واستدلوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر).

وأجيب بأن هذا الحديث خرج مخرج الغالب، وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ [البقرة:234] فعمم الله عز وجل في كل مسلم ترك وراءه زوجة أن تحد عليه، وبناء على ذلك فهذا النص القرآني العام أصل، ويجاب عن الحديث بأنه خرج مخرج الغالب.

وهناك جواب من وجه ثانٍ: وهو أن الكتابية تؤمن بالله وتؤمن باليوم الآخر، فهي تؤمن أن الله موجود، وإن كانت تشرك بالله حينما تقول: إن عزيزاً ابن الله، فاليهود يقولون: عزير ابن الله، والنصارى يقولون: المسيح ابن الله، لكنهم يؤمنون أن الله موجود، بخلاف اللاديني الذي لا دين له، وبخلاف الملحد والوثني، ففي الأصل عندها إيمان بالله، وأيضاً عند أهل الكتاب إيمان باليوم الآخر، وهذا جواب طائفة من جمهور العلماء عن هذا الحديث: أن الكتابية من حيث الأصل عندها دين، وإن كان دينها فيه تحريف، ولذلك فرق الله بين الكتابي وغير الكتابي، وقد كانوا يفعلون الشرك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر الله أنهم قالوا: إن عزيراً ابن الله، وقالوا: إن المسيح ابن الله، وقالوا: إن الله ثالث ثلاثة، ومع ذلك وصفهم أنهم أهل كتاب، وهذا لوجود الأصول العامة من كونهم يؤمنون بأن هناك إلهاً، ويؤمنون بأن هناك رجعة بعد الموت، بخلاف الدهريين والمشركين والوثنيين الذين لا يؤمنون بهذا، فلهذا أعطوا حكماً خاصاً، ولذلك الكتابية إذا نكحها المسلم حل نكاحها؛ لأنها أقرب ويمكن جذبها إلى الإسلام، ولذلك حل نكاح الرجل لنساء أهل الكتاب، ولم يحل نكاح رجالهم لنساء المؤمنين؛ حتى لا يكون سبباً في إغواء نساء المؤمنين، فالمقصود: أن هناك قواسم يمكن أن تكون سبباً في هدايتهن كما بينا هذا في كتاب النكاح.

فالمرأة الكتابية إذا توفي عنها زوجها المسلم يلزمها الحداد على الصحيح من أقوال العلماء؛ لظاهر آية الإحداد، والحديث يجاب عنه بخروجه مخرج الغالب والمخاطبة، وعلى كل حال فالمصنف -رحمه الله- عبر بهذه الأمور لكي يبين لزوم الحداد للجميع.

قال رحمه الله: [في نكاح صحيح ولو ذمية].

(في نكاح صحيح) فلا يلزم الحداد إلا إذا وجد النكاح الصحيح، والدليل: قوله عليه الصلاة والسلام: (إلا على زوجها) والوصف بالزوجية مقترن بالوصف الشرعي، فكل من وصف شرعاً بأنه زوج وتوفي شرع الحداد عليه، والزوج الذي يوصف بكونه زوجاً شرعياً لا يمكن أن يوصف بذلك إلا بعقد صحيح، وهو العقد الذي توفرت فيه شروط صحته مما تقدم معنا في كتاب النكاح:

أن لا يكون هناك مانع يمنع من نكاح المرأة، وأن يكون هذا العقد بولي، وشاهدين، ومهر، وإيجاب وقبول صادرين من المعتبر، إذا ثبت هذا؛ فإنه حينئذٍ إذا وقع العقد صحيحاً وبعد العقد ولو بلحظة توفي عنها زوجها لزمها الحداد؛ لأن الله يقول: وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا [البقرة:234]، وهي زوجة بمجرد صحة العقد.

وأما إذا كان النكاح فاسداً أو كان وطء زناً -والعياذ بالله- فهذا لا حداد فيه؛ لأن النكاح الفاسد لا تترتب عليه الآثار الشرعية، فوجوده وعدمه على حد سواء، وكذلك إذا كان وطء شبهة فإنه لا يلزم فيه الحداد.

ولو أنه نكح نكاح متعة فإن نكاح المتعة نكاح فاسد، وإذا توفي عنها بعد هذه المتعة لا نقول بوجوب الحداد عليها؛ لأنه نكاح فاسد.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع