شرح زاد المستقنع كتاب البيع [9]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله تعالى: [فصلٌ: ولا يصحُّ البيع مِمَّن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني].

(فصل) هذا الفصل مبنيٌ على ما تقدم من الأحكام المتعلقة بالشروط؛ والسبب في هذا: أن ما نهى عنه الشرع من البيوعات كأنه ينبه المتعاقدين أثناء تعاقدهما على الاحتراز والتوقي من أسباب أو من موجبات النهي، فصارت كأنها علامات وأمارات توجب اتقاء هذا النوع من البيوع، فهنا ارتبط الفصل بالشروط الماضية، إلا أن الأحكام التي تقدمت معنا في الفصل الماضي تتعلق بالشروط التي إذا توفرت حكمنا بصحة البيع، وإذا لم تتوفر أو سقط بعضها أو فات بعضها حكمنا بفساده، فكأن المنهيات أو البيوع المنهي عنها متعلقة بالشروط من جهة كون الشرع نهى عنها، إلا أنها تخالف الشروط من جهة كونها لا تستلزم الفساد، فقد يكون الشيء منهياً عنه ويأثم فاعله إلا أن العقد صحيح. وعلى هذا شرع المصنف رحمه الله في بيان جملة من البيوع التي حرمها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وبهذه المناسبة ينبغي أن يعلم أن ما أحلّ الله من البيوع أكثر مما حرمه سبحانه وتعالى؛ لأن الشريعة شريعة رحمة وشريعة تيسير، قال تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وقال سبحانه وتعالى -وهو أصدق القائلين وأحكم الحاكمين تبارك رب العالمين-: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185]، فجعل الله البيوع التي أباحها وأحلّها لعباده المؤمنين من الطيبات أكثر من التي حرم، ومن هنا يعتني المحدثون والفقهاء وأئمة الإسلام رحمهم الله برحمته الواسعة ببيان البيوع المنهي عنها، ويجعلون مباحثها ومسائلها وأبوابها مرتبة على مسائل الشروط وأبوابها.

والآن سيشرع المصنف في جملة من البيوعات المنهي عنها، وهذه البيوعات المنهي عنها تارةً يُنهى عنها من أجل الوقت والزمان، فيقول لك الشرع: لا تبعْ؛ لأن هذا الوقت ليس بوقت بيع، وتارةً يمنعك الشرع من البيع والشراء للمفاسد المترتبة على بيعك وشرائك لاشتماله على صورة توجب الضرر، وتارة ينهاك عن ذلك تعبداً منه سبحانه وتعالى لأمرٍ حرمه أو كونه ذريعة إلى ضرر أو مفسدة حرمها الشرع، فمثلاً في قوله رحمه الله: [ولا يصحُّ البيعُ ممَّن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني].

(لا يصح) هذا يدل على نفي صحة البيع، بمعنى: أن البيع لو وقع بعد الأذان الثاني من شخص تلزمه الجمعة فإنه يحكم بعدم صحته، وهذه المسألة مبنية على قوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة:9-10]، هذه الآية الكريمة صدرها الله عز وجل بالنداء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...)، قال العلماء: لأن الذي يمتثل أمر الله عز وجل ويستقيم على ذلك الشرع الذي شرعه سبحانه إنما هم المؤمنون الكاملون في إيمانهم، الذين إذا أمروا من الله اِئتمروا وإذا نهوا من الله انكفوا وانزجروا فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا...) وهو نداء التشريف الذي يحرك في النفوس العزيمة على الامتثال والعمل بما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) قال: (إِذَا نُودِيَ) أي: إذا ابتدأ النداء للصلاة من يوم الجمعة، فالتحريم يبتدئ من قول المؤذن (الله)، فإذا ابتدأ بلفظ الجلالة من النداء الثاني بقوله: (الله أكبر) حرم البيع وحرم الشراء، (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) قوله سبحانه: (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) تخصيص يدل على أن غيره لا يشاركه في هذا الحكم، ثم ليس كل يوم الجمعة وإنما فقط في هذا الظرف من ابتداء النداء الثاني: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) وهي الصلاة المفروضة أعني: صلاة الجمعة فـ(أل) في الصلاة للعهد الذهني، أي: أنها الصلاة المعهودة المعروفة في يوم الجمعة وهي صلاة يوم الجمعة: (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) أي: في يوم الجمعة أو أنها جزء أو تبعيض للظرف: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) أمر بالمضي إلى الصلاة، ثم قال: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) (ذروا) بمعنى: اتركوا، وعلماء الأصول يقولون: إن من صيغ التحريم أن تأتي الآية بقوله: (ذر) بمعنى اترك، كما قال تعالى: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ [الأنعام:120] أي: اتركوه، وهذا يدل على تحريم ظاهر الإثم مثل القول الظاهر: كالسبّ والشتم، وباطنه مثل: الحسد ونحو ذلك، (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي: اتركوه، ومن هنا قال العلماء: يحرم البيع، ويتعلق التحريم بالطرفين: يتعلق بالبائع فلا يجوز له أن يبيع، ويتعلق بالمشتري فلا يجوز له أن يأخذ ويشتري، وقوله سبحانه: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) معناه: العقد، وهو صيغة البيع: بعت واشتريت.

وعلى هذا فلو قال له: بكم هذا الكتاب؟ قال: بعشرين، قال: قبلت. فلما مدّ له العشرين وأراد الآخر أن يقبض أذن المؤذن، فإن العبرة بالصيغة، فلما وقعت الصيغة ووقع العقد قبل الأذان صحَّ؛ لأن قوله سبحانه: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) أي: عقد البيع، إذاً: إذا وقعت الصيغة التي هي الإيجاب والقبول قبل أن يبتدئ المؤذن بالأذان فقد أوجب البيع ولزمهما إمضاءه وإتمامه.

وقوله سبحانه وتعالى: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) النداء في يوم الجمعة نداءان:

أولاً: الأذان الذي هو الأصل في يوم الجمعة، والذي يقوم الخطيب ويخطب، وهذا النداء مجمع عليه، وقد ثبتت به النصوص الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنه كان يؤذن بين يديه، وهو الذي يسميه العلماء: الأذان بين يدي الخطيب، وهو الذي عليه المعوّل وهو نداء الفريضة.

ثانياً: الأذان الذي هو من السنن المعمول بها؛ لأنها سنة خليفة راشد وهو عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، فإن هذا النداء وضعه عثمان رضي الله عنه وأرضاه ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، ولم ينكره أحد من السلف، ومضى على ذلك إجماع الأمة سلفاً وخلفاً على أن هذا الأذان سنة؛ والسبب في هذا: أن عثمان رضي الله عنه نظر إلى حاجة الناس؛ لأنهم كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم قلّة، ثم لما كثر الناس أصبح يؤذن الأذان الثاني وهم في خِضم البيع والشراء؛ لأنهم يفاجئون بالأذان فجأة، فشرع أو أحدث هذا الأذان الذي هو الأذان الأول، ومضت السنة عليه، وهذه السنة لا يفرق العلماء فيها بين وجود السبب أو عدم وجوده، أي: لا نعرف أحداً من أهل العلم لا من السلف ولا من الخلف يقول: إنه إذا وجد سبب يشرع وإذا لم يوجد لم يشرع؛ لأنه مثل الرمل، كان له سبب فلما زال سببه بقي سنة إلى يوم القيامة، ولذلك هذه سنة راشدة باقية، ومما يدل على ذلك أن هذا الأذان كان يحكم به العلماء رحمهم الله ولا يفرقون بين القرى الصغيرة والقرى الكبيرة ولا يفرقون بين ما يحتاج فيه الأذان الثاني أو لا يحتاج، إنما قالوا: هذا سنة، ويتعبد لله سبحانه وتعالى به ويُعمل به؛ لأن سواد الأمة الأعظم مشى على هذا، ولا يستطيع إنسان أن يشذ عن جماعة المسلمين أو يغيّر شيئاً مضت عليه السنة، خاصة في الأمور التعبدية: وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ [النساء:115]، فالإنسان إذا وجد سنة مضى عليها العمل لا يسعه إلا اتباع السلف والسير على منهجهم، فإن فصلوا فصلنا وإذا لم يفصلوا لا نفصل، فهو سنة باقية إلى قيام الساعة، كما أن الأذان الثاني باقٍ إلى قيام الساعة فإن هذا الأذان الذي أحدثه عثمان رضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء سنة راشدة باقية.

على هذا: الأذان الأول لا يتعلق به حكم، ولا يمنع فيه من البيع؛ لأن الآية نزلت في الأذان الثاني ولم تنزل في الأذان الأول، ولأنها لما نزلت في الأذان الثاني كان الوقت الذي بين الأذان الأول والثاني يشرع فيه البيع بظاهر النص والقرآن، فلما أُحْدِث الأذان الأول أُحْدِث في وقت مأذون بالبيع فيه بنص الآية الكريمة، فبقي الحكم على ذلك أنه يجوز أن يقع البيع بين الأذان الأول وبين الأذان الثاني، إنما يحرم البيع بشرط، وهذا الشرط أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله: (ممن تلزمه الجمعة).

(تلزمه) أي: تجب عليه، وعلى هذا كأنه في هذا الوقت مطالبٌ بما هو آكد وألزم، يقول العلماء: من الأسباب التي منع الشرع بها البيع: أن يكون وقت البيع مستحقاً لما هو أهم، ويمثلون له بالبيع بعد الأذان الثاني، وقالوا: لأن هذا الوقت مستحق لما هو أهم وهو صلاة الجمعة، فكأنه حينما أوجب البيع وقال له: بعتك وقال: اشتريت، هو في هذه اللحظة مطالبٌ أن ينصرف إلى الصلاة وذكر الله لا إلى البيع، فوقع بيعه وشراؤه على وجه عصى الله عز وجل فيه.

وقوله: (ممن تلزمه الجمعة) على هذا هناك صور يأثم فيها الطرفان، وصور لا يأثم فيها الطرفان، وصور يأثم فيها أحد الطرفين دون الآخر:

فالصورة التي لا يأثم فيها الطرفان: كامرأة باعت لصبي، فإن الصبي لا تلزمه الجمعة والمرأة لا تلزمها الجمعة، أو امرأة باعت لامرأة فيصحّ البيع ولا إشكال في جوازه، فليس على النساء جمعة وليس عليهن جماعة، فلا يلزم الطرفين المضي إلى الجمعة، أو مسافر يبيع لمسافر، فإن المسافر لا تلزمه الجمعة.

إذاً الشرط: أن يكون الطرفان ملزمان بالجمعة، فإن تعلق الإلزام بأحدهما أثم ذلك الذي تعلق به الإلزام، وبالنسبة للطرف الثاني فإنه إذا باعه وهو يعلم أنه ممن تلزمه الجمعة يأثم؛ لأنه يعينه على الإثم والعدوان، كامرأة تبيع لرجل، أو مسافر يبيع لحاضر؛ فإن المسافر أعان الحاضر على عصيان الله عز وجل، فباع له أو اشترى منه، ففي كلتا الحالتين يكون من باب التعاون على الإثم والعدوان.

والصورة التي يأثم فيها الطرفان: كرجلين مكلفين حاضرين، فإنه في هذه الحالة إذا تبايعا بعد أذان الجمعة وقد لزمتهما الجمعة يأثم البائع ويأثم المشتري، فهما في الإثم سواء.

والصورة التي يأثم فيها البائع دون المشتري أو المشتري دون البائع: كأن يكون البائع ممن تلزمه الجمعة والمشتري ممن لا تلزمه الجمعة؛ ولكن إذا علم المشتري أن هذا ممن تلزمه الجمعة واشترى منه فقد أعانه على الإثم، فيأثم من باب المعونة لا من باب الأصل، والعكس بالعكس في حالة إثم المشتري دون البائع.

وقوله رحمه الله: (ولا يصح البيع) أولاً: النهي عن البيع بعد أذان الجمعة فيه دليل على أمور عظيمة، ومن أجلها وأعظمها: أنه ينبغي للمسلم أن يجعل الآخرة أكبر همه ومبلغ علمه وغاية رغبته وسؤله؛ لأن الله سبحانه وتعالى خلقه لعبادته ولم يخلقه للبيع والشراء، والله خلقه للدين ولم يخلقه للدنيا، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون [الذاريات:56] ، فكان الأصل أن المكلف مطالب بعبادة الله عز وجل والسير وفق ما شرعه سبحانه، فإن تعارض ذلك مع مصالح الدنيا قدم ما شرعه الله عز وجل إلزاماً على ما دون ذلك من مصالح الدنيا.

الأمر الثاني: فيه دليل على فضل خطبة الجمعة؛ وذلك أن الله عز وجل حرّم البيع ومنع الناس أن يشتغلوا به؛ لأنه إذا أذن الأذان الثاني في هذه الحالة يكون الناس مشتغلين بالخطبة، فإذا تبايعوا أو اشتروا في هذا الوقت فمعنى ذلك أنهم سينشغلون عن الخطيب ويتأخرون عنه، ومن هنا ينبغي للإنسان إذا سمع النداء الثاني ألا يشتغل بشيء سوى الانصراف إلى صلاة الجمعة وإجابة داعي الله عز وجل، وبقدر هذه الاستجابة وبقدر هذا المضي إلى طاعة الله عز وجل يكون توفيق الله للعبد؛ لأن الله تعالى يقول: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [الجمعة:9]، ومعنى ذلك: أنكم إذا لم تفعلوا فتجيبوا داعي الله عز وجل إلى الصلاة فإنه شرٌّ لكم لو كنتم تعلمون.

فعلى المؤمن أن يعلم أن الله سبحانه إذا دعاه إلى فريضة من فرائضه وألزمه المضي إليها ألا يشتغل بأي شيء سواها، ولذلك كان بعض السلف إذا أذن المؤذن وسكين أحدهم في اللحم لم يتم القطع ويمضي مباشرة، وهذا من كمال الاستجابة، وليعلم كل مسلم أن مكانته عند الله عز وجل في هذين الموضعين: الأمر والنهي، فإذا رآك الله سبحانه حيث يحب ألاَّ يفقدك، وفقدك حيث يحب ألاَّ يراك؛ فأنت على خير، وصلحت لك أمور الدين والدنيا والآخرة، وبقدر الاستجابة يكون التوفيق من الله عز وجل للعبد.

فالمقصود: أن الله سبحانه وتعالى حرم البيع في هذا الوقت، مع أن البيع تتوقف عليه مصالح الناس ومعايشتهم؛ ولكنه وقت بسيط وشيء يسير يقتطع خلال الأسبوع كله.

وفيه دليل أيضاً: على أنه ينبغي ألا تكون الدنيا في قلوب الناس؛ لأن المسلم حينما يسمع النداء ويترك البيع فإنه يتَعَوّد في هذه الحالة أن يؤثر الآخرة على الدنيا ولا يجعل الدنيا هي المتعلقة بالقلب.

وهذا الحكم الذي ذكره المصنف: (ولا يصحُّ البيع) فيه خلاف:

فبعض العلماء يقول: إذا تبايعا بعد الأذان الثاني من يوم الجمعة فإنهما يأثمان والبيع صحيح، أي: يأثم البائع ويأثم المشتري والبيع صحيح؛ والسبب في هذا: أن البيع إذا وقع بأركانه وشروطه المعتبرة لصحته فالأصل أن يحكم بثبوته، فعندنا بائع وعندنا مشترٍ وعندنا بقية شروط البيع: من الرضا، والملكية، والعلم بالمبيع، والثمن، وكل هذه الشروط متوفرة، فإذا توفرت الشروط حكمنا بالصحة، وكونه يقع بعد الأذان الثاني نقول: يأثم الطرفان أمّا البيع فصحيح، والدليل على صحة البيع قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] ، فأمرنا الله سبحانه أن نوفي بالعقد، فنقول: إذا تبايع المتعاقدان بعد الأذان فالبيع صحيح؛ لأن الله أمر بإعمال العقد وإتمامه، ولكنهما يأثمان؛ لأن الوقت ليس بوقت بيع، فأثما بمعصيتهما لله سبحانه ولكن البيع صحيح.

وقال بعض العلماء: إن هذا النهي يدل على فساد البيع وعدم صحته.

والقول الأول: للجمهور، والقول الثاني: للحنابلة والظاهرية وطائفة من أهل الحديث رحمة الله على الجميع.

والصحيح: مذهب الجمهور أنهما إذا تبايعا بعد الأذان الثاني فالبيع صحيح؛ لأن أركان البيع وشروط صحته موجودة، ولكنهما يأثمان لكونهما ارتكبا ما حرم الله عز وجل.

(ممن تلزمه الجمعة) أي: تجب عليه (بعد ندائها) أي: أذانها، (الثاني) ومفهوم ذلك أنه إذا وقع بعد الأذان الأول وقبل الأذان الثاني فالبيع صحيح.

حكم النكاح وسائر العقود بعد أذان الجمعة الثاني

[ويصحُّ النِّكاح وسائر العقود].

لأن الله سبحانه نهى عن البيع وحده ولم يسمِّ شيئاً غيره إذ لم يقل سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لا تتعاقدوا أو ذروا العقود)، إنما قال: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) فنهى سبحانه عن البيع وحده، وإذا خص النهي بشيء تعلق به وفُهم من ذلك أن ما عداه باقٍ على الأصل، فلو أن رجلاً قال لرجل وهما ماضيان للجمعة: زوجتك بنتي، قال: قبلت، وكان بحضور رجلين صحَّ العقد ولا يؤثر فيه كونه بعد النداء الثاني، وهكذا بقيّة العقود واختلف في الإجارة؛ لأن الإجارة تقاس على البيع في كثير من المسائل، والذي يقوى أن نفس المعنى الموجود في البيع موجود في الإجارة، فلو قال قائل بالتحريم لكان قوله من القوة بمكان.

[ويصحُّ النِّكاح وسائر العقود].

لأن الله سبحانه نهى عن البيع وحده ولم يسمِّ شيئاً غيره إذ لم يقل سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ لا تتعاقدوا أو ذروا العقود)، إنما قال: (وَذَرُوا الْبَيْعَ) فنهى سبحانه عن البيع وحده، وإذا خص النهي بشيء تعلق به وفُهم من ذلك أن ما عداه باقٍ على الأصل، فلو أن رجلاً قال لرجل وهما ماضيان للجمعة: زوجتك بنتي، قال: قبلت، وكان بحضور رجلين صحَّ العقد ولا يؤثر فيه كونه بعد النداء الثاني، وهكذا بقيّة العقود واختلف في الإجارة؛ لأن الإجارة تقاس على البيع في كثير من المسائل، والذي يقوى أن نفس المعنى الموجود في البيع موجود في الإجارة، فلو قال قائل بالتحريم لكان قوله من القوة بمكان.

[ولا يصحُّ بيع عصيرٍ ممن يتخذه خمراً].

العصير يكون من الفواكه ونحوها من الثمار التي تعصر ويستخلص المائع منها، وهذا يشمل ما إذا كان من الفواكه وغير الفواكه.

وهذه المسألة تعرف عند العلماء بسد الذرائع؛ والسبب في هذا: أن الله سبحانه وتعالى حرّم أموراً وحرّم الوسائل المفضية إليها، ومن هنا نجد العلماء يقولون بالقاعدة المعروفة: (الوسائل تأخذ حكم مقاصدها) والوسائل جمع وسيلة، والوسيلة: هي ما يتوصل بها إلى الشيء، فالسيارة وسيلة إلى بلوغ المسجد، فإن كان ركوبه من أجل أن يفعل واجباً فإنها طاعة وقربة، وإن كان ركوبه من أجل أن يفعل محرماً فإنها إثمٌ ووزر -والعياذ بالله-، فهناك مقاصد وهناك وسائل، والمقاصد في المنهيات كالجرائم: كالزنا، وشرب الخمر، والقتل -والعياذ بالله- أي: أنها نفس الحدود التي تقصد وتراد، وهناك أشياء يتوصل بها إلى هذا الحرام، فهذه الأشياء التي يتوصل بها إلى الحرام من زنا وشرب خمر وقتل -والعياذ بالله- تأخذ حكم مقاصدها، وعلى هذا جاءت نصوص الشريعة، ولذلك قال الله عز وجل: وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور:31]، فلما صار ضرب المرأة برجلها حتى يسمع الصوت فتلتفت الأنظار إلى مصدر الصوت فكأنها تقصد النظر إليها، والنظر إلى المرأة يفضي إلى الحرام وهو الزنا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان وزناهما النظر)، فيحرم النظر إلى المرأة، والنظر ذاته ليس هو الجريمة، بل الجريمة هو الشيء الأعظم الذي هو الزنا، لكن النظر يهيئ ويهيج الشهوة والغريزة من أجل أن تقع في الحرام، فليس هو المقصود الأخير الذي من أجله حرّم الله سبحانه وتعالى النظر، وإنما هو وسيلة يتوصل بها إلى الحرام. وكالخلوة بالمرأة الأجنبية والجلوس معها فإن نفس الخلوة والجلوس معها بذاته ليس هو الجريمة لكن الجريمة الزنا؛ فإذا جلس معها دون رقيب ودون نظر من الناس ودون محرم فمعنى ذلك: أن نفسه تحدثه بالحرام ونفسها تحدثها -والعياذ بالله- بالحرام، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وقال: (ألا لا يخلونّ رجلٌ بامرأة)، فنهى عن ذلك، والخلوة ليست هي الزنا بذاتها؛ لكنها وسيلة إلى الزنا، والسفر مع المرأة الأجنبية كذلك، فليس هو بذاته الزنا وليس بذاته فعل الحرام؛ لكنه إذا سافر معها تهيأت الأسباب مع وجود البواعث النفسية التي فُطر عليها الإنسان وجُبِل عليها من ميل الرجل للأنثى وميل الأنثى للرجل فحينئذٍ يقعان في المحظور، وكأننا إذا قلنا بالإذن لهما كأننا نهيئ السبب للوقوع في الحرام، فهذا كله يسمى في الشرع (الوسائل)، والوسائل تفضي إلى المحرمات، ثم هذه الوسائل كما قرر العلماء رحمهم الله تتفاوت درجاتها وآثامها على تفاوت مقاصدها في انتهاكها لحدود الله عز وجل، فالوسائل إلى الشرك أعظم من الوسائل إلى الزنا، والوسائل إلى الزنا أعظم من غيرها مما هو دونها من الجرائم.

فإذاً: عندنا مقاصد وعندنا وسائل، ومن ما كُتب في هذه المسألة ما كتبه الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله في كتابه النفيس: قواعد الأحكام ومصالح الأنام، فقد تكلّم كلاماً نفيساً على الوسائل، وأنها تأخذ حكم مقاصدها، وأنها تتفاوت بحسب تفاوت الدرجات، ولذلك نجد فعل السلف على هذا، فـعمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قطع الشجرة التي بايع الصحابة تحتها بيعة الرضوان، وهي البيعة التي أثنى الله على أهلها وشهد من فوق سبع سموات أنه اطّلع على قلوب الصحابة فوجد فيها حبّ الله وحبّ رسوله صلى الله عليه وسلم والصدق في العهد: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:18]، علم الخير والإيمان والصبر والثبات ونصرة الإسلام، فهذا المكان له شرف وله فضل من حيث الوصف، فلما مرّ عليها عمر أمر بقطعها، وقيل: إنه بعث من يقطعها. ما السبب؟ السبب في هذا أنه جاءت خلوف من بعد الصحابة رضوان الله عليهم خشي عمر أن يقول قائلهم: هذه الشجرة التي بايع تحتها الصحابة، فيصبحون يصلون عندها أو يتعلقون بها أو يتبركون بها أو يعتقدون الفضل في مكانها فقطعها، والقطع للشجرة إتلاف لها، وإتلاف الزروع والثمار والأشجار لا ينبغي إلا لوجود أمر هو أعظم من هذا الأمر، فنظر عمر رضي الله عنه إلى خوف الإفضاء إلى الشرك وخوف التعظيم الذي يفضي إلى العبادة فحينئذٍ سد الذريعة، وإذا أزيل هذا الأثر ليس هناك أمر مفروض سيزول؛ إنما هناك أمر عظيم وهو حق الله عز وجل الذي من أجله خلق الخلق سيستقيم وسيكون الناس في مأمن مما يلوثه ويدنسه من التعلق بغير الله عز وجل.

إذاً هذه قاعدة: أن الوسائل تأخذ حكم مقاصدها، فهنا العصير إذا كان الشخص يأخذ العنب فيعصره -والعياذ بالله- خمراً أو يأخذ التمر فينتبذه ويجعله نبيذاً إلى أن يصير خمراً، أو يأخذ أي شيء من الأشياء التي تعصر ويشتريها ثم يُصَنِّعْها خمراً، لا يجوز البيع له، وإن كان ذات البيع جائزاً من حيث الأصل، فالقضية ليست في البيع، إنما القضية أن البيع أصبح وسيلة إلى حرام، والوسيلة تأخذ حكم مقصدها، فلما كان مقصدها الحرام وكونك عندما تبيعه يعينه ذلك على الحرام أُمِرت أن تمتنع؛ لأنه من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فواجب عليك أن تمنعه من الحرام، فإذا امتنعت من البيع له لم يستطع أن يعصر، وإذا امتنع الناس من بيع العنب لمن يعصره خمراً تعذّر عليه أن يُحْدِث الخمر وتعذر عليه أن يصنع الخمر، وفي حكم الطعام المُصنَّع بالآلات، فالآلات إذا اتخذت للحرام وكانت وسيلة إلى الحرام فإنه ينبغي المنع من الإعانة عليها بإعطائها أو بيعها أو إجارتها، وعليه فالوسائل تأخذ حكم مقاصدها، وقد جاء في الأثر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب ممن يتخذه خمراً)، وقال: (إنه إذا باعه فقد تقحم نار الله على بصيرة) والعياذ بالله! فعلى هذا لا يجوز للمسلم أن يبيع العصير ممن يتخذه خمراً. وفي حكم ذلك جميع الوسائل كما يقع في زماننا: فلو علم أنه يهرّب الحشيش، أو يهرّب المخدرات، أو يتخذ بيته للدعارة أو للفساد، فإنه يجب عليه في هذه الحالة أن يتعاطى أسباب الحفظ فيمتنع من إجارة البيت له، ويمتنع من إجارة السيارة له، ويمتنع من إعانته على هذا المحرم الذي يفضي إلى الإضرار بالناس والإضرار أيضاً بمن يأخذ ذلك المباح، فيتذرع به إلى الحرام.

فالمقصود: أن المصنف رحمه الله شرع في بيان النهي بالوسائل، وهو أن البيع قد يحرم لكونه وسيلة إلى الحرام.

قال رحمه الله: [ولا سلاح في فتنة].

أي: ولا يجوز بيع السلاح في الفتنة، وهذه نفس القضية، وهذا من باب التمثيل، فذكر أولاً العصير ممن يتخذه خمراً، ثم ثنى بالسلاح في الفتنة، فإذا وقعت فتنة بين المسلمين فتقاتلوا فحينئذٍ إذا بيع السلاح فإن معنى ذلك أنه سيستعين المسلم بهذا السلاح على قتل أخيه المسلم، فلو حدثت نعرة جاهلية بين طرفين -مثلاً- وتقاتلوا فجاء إنسان وباع السلاح لأحد الطرفين فإنه شريكٌ في الدم الذي يراق في هذه الفتنة جميعها، وكل ما ينشأ من سفكٍ لدم حرام بما باعه فإنه يكون شريكاً لصاحبه في الإثم والوزر -والعياذ بالله- ، وهذا يدل على عمق الشريعة الإسلامية ومحافظتها على الناس، وأن القضية ليست قضية مادية، وأنه ينبغي أن ينظر إلى الدين أنه هو الأساس وأنه هو المعوّل، فلو قال قائل: نترك الناس يتبايعون، وأنا الذي يهمني أن أبيع، نقول: لا، الدين هو الأساس، فإذا أفضى الأمر إلى شيء فيه معصية لله ومعصية لرسوله صلى الله عليه وسلم وانتهاك لما حرّم الله فإنك شريكٌ في الإثم، والله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه: وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2] ، فكأنه إذا باع السلاح لمن يقتل به إخوانه المسلمين فقد أعان على الإثم وهو سفك الدم الحرام، وأعان على العدوان؛ لأنه سفكٌ بدون حق، وهكذا بالنسبة لبقية الصور، فالعلماء يذكرون بيع العصير ممن يتخذه خمراً، والسلاح في الفتنة من باب التمثيل وقياس بقية الصور عليها، وانظروا إلى دقة المصنف رحمه الله في اختياره للمثالين، فقد يقول قائل: إن المثال الأول قد يغني عن المثال الآخر من جهة القاعدة، فنقول: في المثال الأول إذا نظرت إلى جريمة الخمر وجدتها اعتداء على العقل، فهي اعتداء من الإنسان على نفسه، ولكن السلاح في الفتنة اعتداء من الإنسان على غيره، وهذا يدل على فقه العلماء حتى في التمثيل، وقد كان العلماء يؤلفون في أزمنة أئمة فما يضعون مثالاً إلا بعد دراسة. وصحيح أن من شرب الخمر قد يقتل غيره -والعياذ بالله-؛ لكن نحن نتكلم على الأصل، وهو أن شارب الخمر في الأصل جنايته على نفسه، ولذلك يسميها العلماء: الجناية على العقول، فهي متعلقة في الأصل بالإنسان نفسه، ثم بعدما يجني على عقله يجني على الغير.

فالمقصود: أن هذا التنويع في الأمثلة مقصودٌ من المصنف رحمه الله، ولم يأت من فراغ وعبث وإنما أراد أن يُنَظِّرَ به، فجعل الأول مثالاً للجناية القاصرة على الإنسان، والثاني مثالاً على الجناية المتعدية إلى الغير.

قال رحمه الله: [ولا عبد مسلم لكافر إذا لم يعتق عليه].

ولا يجوز بيع العبد المسلم للكافر إذا لم يعتق عليه، فعندنا أصل وعندنا استثناء، فالأصل أنه لا يجوز بيع المسلم، وتعرفون أن الرقيق قد يكون مسلماً وقد يكون كافراً، فالرقيق الكافر ليس عندنا فيه إشكال؛ لأن أصل الرق الكفر، ولا يضرب الرق إلا بالكفر -كما قدمنا في الجهاد-، لكن إذا كان مسلماً كرجل أخذ في الأسر ثم بعد ذلك أسلم -وإذا أسلم فإنه يبقى رقيقاً؛ لأننا لو قلنا: إن كل من أسلم يزول عنه الرق ربما أسلموا لإزالة الرق عنهم- وأردت أن تبيعه فلا يجوز بيعه لكافر، ما السبب؟

أولاً: لأنه لا يجوز علو الكافر على المسلم؛ لأن الله تعالى يقول: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141] ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه) ، فإذا بيع العبد المسلم لرجل كافر أو لامرأة كافرة فمعنى ذلك أنه أصبح عبداً لكافر فيعلو الكفر على الإسلام، ويصبح للكافر سلطان على المسلم يأمره فيأتمر وينهاه فينزجر.

ثانياً: لأنه إذا بيع المسلم للكافر ربما فتنه في دينه فأكرهه حتى يكفر -والعياذ بالله- كما فعل أمية بن خلف لعنه الله في تعذيبه لـبلال رضي الله عنه وأرضاه.

فالمقصود: أن الرقيق إذا كان تحت الكافر فتنه في دينه، ومن هنا ندرك دقة الإسلام حينما أجاز زواج المسلم من الكافرة إذا كانت كتابية ولم يُجز أن ينكح الكافر المسلمة؛ لأنه إذا كانت الكافرة تحت المسلم كان الأمر للمسلم ولم يكن للكافرة، وحينئذٍ قد يكون قيامه عليها وتأثيره عليها سبباً في إسلامها، والعكس: فلو زُوِّجت المسلمة من كافر ولو كان كتابياً قد تغتر به وتحت ضغطه وقهره تصبح مفتونة في دينها فتكفر -والعياذ بالله!-

فإذاً: مسألة بيع العبد المسلم للكافر هو خوف الذريعة وأن يفتنه في دينه، وأقل ما يكون وليس بقليل: أنه يعلو كعب الكافر على المسلم ويصبح الفضل للكافر على المسلم، ولا يجوز أن يُعلى كعب الكافر على المسلم ولا أن يُذلَّ المسلم للكافر.

(إلاّ) هذا استثناء، (أن يعتق عليه) أي: إذا كان هذا الكافر ذا رحم من المسلم الذي سيباع بحيث إذا ملكه أعتقه، كأن يكون العبد والداً مسلماً يُباع لابنه الكافر، فإنه إذا ملك الابن أباه أعتقه، وعلى هذا يجوز؛ لأنه ستزول المفسدة ولا يفضي إلى الضرر الذي حرم الشرع من أجله بيع المسلم للكافر.

الحكم إذا أسلم العبد وهو عند كافر

قال رحمه الله: [وإن أسلم في يده أجبر على إزالة ملكه].

أي: إذا كنت تقرر أنه لا يجوز بيع المسلم للكافر، يرد السؤال: لو أن كافراً ملك عبداً كافراً ثم أسلم هذا العبد الكافر، وفي القديم تعرفون أنه كان هناك أهل ذمة، وأهل الذمة يكونون تحت حكم المسلمين فكانوا يشترون العبيد ويملكونهم، فإذا اشترى عبداً كافراً ثم أسلم هذا العبد فمعنى ذلك: أنه سيبقى سلطان الكافر على المسلم. فيرد السؤال: هل التحريم يختص بالابتداء والإنشاء، أم يشمل حتى الاستدامة؟ فالمصنف ذهب إلى أنه يشمل حتى الاستدامة، فإذا أسلم العبد الكافر عند الكافر، صار عبداً مسلماً، فحينئذٍ لا يستديم العقد ونلزم الكافر ببيعه، ولا نظلم الكافر، وهذا يدل على سماحة الإسلام، فالإسلام لا يأمره بأن يعتقه؛ لأنه إذا اعتقه ظُلم؛ فلو كانت قيمة هذا العبد -مثلاً- ألف درهم أو دينار فهذه الألف ستضيع من ماله وهو يملكه، والإسلام يعطيه هذه الملكية، وهذا العبد هو ملك له، وإذا كان الذميون تحت حكم المسلمين فأموالهم محترمة؛ لأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين -كما قدمنا في باب عقد الذمة وأحكامها-، فالإسلام جاء بالوسطية فلم يلزمه بالعتق خالياً عن العوض، ولم يبق المسلم تحت الكافر حتى لا يفتنه، وجاء بالوسط وقال له: يجب عليك بيعه، فيُلزم أن يبيعه، فإذا باعه بقيمته أنصفناه، فينتج أننا لم نجعل للكافر على المسلم ولاية، ورددنا للكافر حقه المالي، أمّا حقه الاعتباري أن يكون فوق المسلم فليس من حقه، فحرمناه من شيء ليس من حقه، وأعطينا العبد حقه حيث أزلنا الملكية مع رد القيمة إلى المالك الحقيقي وهو الكافر.

قال رحمه الله: [ولا تكفي مُكاتبته].

تعرفون أن الرقيق يزال الملكية عنه بالعتق أو بالبيع أو بالمكاتبة، أمّا بالنسبة للعتق فكأن تعتقه كفارةً لقتل أو كفارةً لظهار أو كفارةً لجماع في نهار رمضان أو كفارةً ليمين أو نحو ذلك من الكفارات، أو تعتقه لوجه الله عز وجل، فيزول ملكك عنه ويبقى الولاء، وتارة تبيعه فإذا بعته للغير فإنه تنتقل الملكية منك إلى الغير وتصبح يدك خلواً عن ملكيته. كذلك هناك حالة ثالثة: وهي أن يشتري العبدُ نفسه. فإذاً هذه ثلاثة أشياء:

أولاً: أن تعتقه أداءً لفرض واجب أو التماساً لمرضاة الله عز وجل.

ثانياً: أن تبيعه.

ثالثاً: أن يشتري العبدُ نفسه منك.

فهذه ثلاثة أحوال لإزالة الملكية عن العبد، فإن قلنا: إن العبد إذا أسلم تحت كافر تجب إزالة الملكية ولا نستطيع أن نلزمه بالعتق؛ لأن هذا يضره، فيبقى الأمران: وقد قلنا: يلزم ببيعه ويقهر ويفرض عليه البيع؛ لكن يبيعه لمسلم ولا يجوز أن يبيعه لكافر. يبقى النظر: لو أن هذا العبد المسلم أراد أن يشتري نفسه نقول: لا تكفي مكاتبته، لماذا؟ لأنه قد يعجز عن الكتابة فيعود الأمر إلى ما كان، وكذلك يبقى طيلة أوقات الكتابة وأنجم الكتابة تحت القهر والعبودية، لأنكم تعلمون أنه لو كاتبه -مثلاً- باثني عشر ألفاً وكل شهر يدفع له ألفاً، فمعنى ذلك أنه سيبقى رقيقاً سنة كاملة، فإذاً: لماذا قال: لا تكفي مكاتبته؟ لأنه طيلة فترة المكاتبة سيبقى عبداً، أو قد يعجز ولن نمكنه أن يكون ذليلاً تحت الكافر لحظة واحدة، فنقول له: الآن تبيعه إلى مسلم، وحينئذٍ يقوم مسلم بشرائه، أو يُشترى لبيت مال المسلمين، على حسب الأحوال والمقتضيات التي يمكن معها تحقيق مقصود الشرع من إزالة ملك هذا الكافر عنه.

قال رحمه الله: [وإن أسلم في يده أجبر على إزالة ملكه].

أي: إذا كنت تقرر أنه لا يجوز بيع المسلم للكافر، يرد السؤال: لو أن كافراً ملك عبداً كافراً ثم أسلم هذا العبد الكافر، وفي القديم تعرفون أنه كان هناك أهل ذمة، وأهل الذمة يكونون تحت حكم المسلمين فكانوا يشترون العبيد ويملكونهم، فإذا اشترى عبداً كافراً ثم أسلم هذا العبد فمعنى ذلك: أنه سيبقى سلطان الكافر على المسلم. فيرد السؤال: هل التحريم يختص بالابتداء والإنشاء، أم يشمل حتى الاستدامة؟ فالمصنف ذهب إلى أنه يشمل حتى الاستدامة، فإذا أسلم العبد الكافر عند الكافر، صار عبداً مسلماً، فحينئذٍ لا يستديم العقد ونلزم الكافر ببيعه، ولا نظلم الكافر، وهذا يدل على سماحة الإسلام، فالإسلام لا يأمره بأن يعتقه؛ لأنه إذا اعتقه ظُلم؛ فلو كانت قيمة هذا العبد -مثلاً- ألف درهم أو دينار فهذه الألف ستضيع من ماله وهو يملكه، والإسلام يعطيه هذه الملكية، وهذا العبد هو ملك له، وإذا كان الذميون تحت حكم المسلمين فأموالهم محترمة؛ لأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين -كما قدمنا في باب عقد الذمة وأحكامها-، فالإسلام جاء بالوسطية فلم يلزمه بالعتق خالياً عن العوض، ولم يبق المسلم تحت الكافر حتى لا يفتنه، وجاء بالوسط وقال له: يجب عليك بيعه، فيُلزم أن يبيعه، فإذا باعه بقيمته أنصفناه، فينتج أننا لم نجعل للكافر على المسلم ولاية، ورددنا للكافر حقه المالي، أمّا حقه الاعتباري أن يكون فوق المسلم فليس من حقه، فحرمناه من شيء ليس من حقه، وأعطينا العبد حقه حيث أزلنا الملكية مع رد القيمة إلى المالك الحقيقي وهو الكافر.

قال رحمه الله: [ولا تكفي مُكاتبته].

تعرفون أن الرقيق يزال الملكية عنه بالعتق أو بالبيع أو بالمكاتبة، أمّا بالنسبة للعتق فكأن تعتقه كفارةً لقتل أو كفارةً لظهار أو كفارةً لجماع في نهار رمضان أو كفارةً ليمين أو نحو ذلك من الكفارات، أو تعتقه لوجه الله عز وجل، فيزول ملكك عنه ويبقى الولاء، وتارة تبيعه فإذا بعته للغير فإنه تنتقل الملكية منك إلى الغير وتصبح يدك خلواً عن ملكيته. كذلك هناك حالة ثالثة: وهي أن يشتري العبدُ نفسه. فإذاً هذه ثلاثة أشياء:

أولاً: أن تعتقه أداءً لفرض واجب أو التماساً لمرضاة الله عز وجل.

ثانياً: أن تبيعه.

ثالثاً: أن يشتري العبدُ نفسه منك.

فهذه ثلاثة أحوال لإزالة الملكية عن العبد، فإن قلنا: إن العبد إذا أسلم تحت كافر تجب إزالة الملكية ولا نستطيع أن نلزمه بالعتق؛ لأن هذا يضره، فيبقى الأمران: وقد قلنا: يلزم ببيعه ويقهر ويفرض عليه البيع؛ لكن يبيعه لمسلم ولا يجوز أن يبيعه لكافر. يبقى النظر: لو أن هذا العبد المسلم أراد أن يشتري نفسه نقول: لا تكفي مكاتبته، لماذا؟ لأنه قد يعجز عن الكتابة فيعود الأمر إلى ما كان، وكذلك يبقى طيلة أوقات الكتابة وأنجم الكتابة تحت القهر والعبودية، لأنكم تعلمون أنه لو كاتبه -مثلاً- باثني عشر ألفاً وكل شهر يدفع له ألفاً، فمعنى ذلك أنه سيبقى رقيقاً سنة كاملة، فإذاً: لماذا قال: لا تكفي مكاتبته؟ لأنه طيلة فترة المكاتبة سيبقى عبداً، أو قد يعجز ولن نمكنه أن يكون ذليلاً تحت الكافر لحظة واحدة، فنقول له: الآن تبيعه إلى مسلم، وحينئذٍ يقوم مسلم بشرائه، أو يُشترى لبيت مال المسلمين، على حسب الأحوال والمقتضيات التي يمكن معها تحقيق مقصود الشرع من إزالة ملك هذا الكافر عنه.

قال رحمه الله: [وإن جمع بين بيعٍ وكتابةٍ، أو بيع وصرف، صح في غير الكتابة، ويُقسَّط العوض عليهما].

قوله: (وإن جمع بين بيع وكتابة).

هذا أيضاً من البيوع المنهي عنها، وهو الصفقتان في صفقة واحدة، وهي في حكم البيعتين في بيعة واحدة؛ والسبب في هذا: أن الصفقات إذا دمجت مع بعضها كأن بعضها قام على بعض، فإذا حصل العيب في البعض يرد الإشكال والخصومة بين الناس، فالعقود التي تقوم على التداخل مثل أن يقول: أؤجرك السيارة سنة وتشتريها بعد سنة، أو خذ السيارة هذه ثلاث سنوات تدفع أجرتها ثم أبيعكها بكذا، فهذا التداخل يوجب الفتنة ويوجب الشحناء إذا تغيرت المبيعات أو حصل عيب في أحد العقدين أو خلل في أحد العقدين، فيسري الفساد إلى العقد الآخر، وهذا يدل على دقة منهج الشريعة، كأننا حينما نقرر الشروط والصفات التي ينبغي على المتعاقدين أن يتنبها لها في العقد فنحن بهذا نمهد للقاضي فصله بين الخصومات، ولذلك لو أُذن بالبيوعات مطلقاً لكثرت الخصومات عند القاضي، لكن حينما يقال للناس: اجتنبوا كذا وافعلوا كذا، فهذا ييسر للقاضي مهمته وييسر للمفتي فتواه، ولذلك تكون عقود البيع واضحة والحقوق واضحة وتفصل الحقوق على وجه بيِّن، لكن لو أدخلت ثلاثة عقود في عقد واحد كيف يفصل القاضي بين المتخاصمين؟ وكيف ينصف الخصم من خصمه؟ فهذا العقد مركب على هذا العقد، فإن جئت تفسد هذا العقد لأنه فاسد فالفساد في الأول وليس في الثاني أو في الثاني وليس في الأول.

فهذا نوع من الدقة في المنهج، وينبني عليه حفظ وصيانة العقود الشرعية مما يفضي إلى الخصومات والنزاعات، فلا يجوز أن يجمع بين البيع والكتابة، كأن يقول لعبده: كاتبتك سنة باثني عشر ألف ريال وبعت عليك بيتي بخمسمائة ألف، فجمع بين البيع والكتابة، والمكاتب ملك لسيده حتى يعتق بالكتابة، فحينئذٍ كأنه يبيع لنفسه ويبيع لغيره، وهذا من تداخل العقود -كما ذكرنا- ، وتداخل العقود قاعدته في المنع الغرر، ولذلك يعتبر من البيوع المحرمة التي نهُي عنها من باب الغرر، ولكونها تفضي إلى الخصومات والنزاعات، ومن هنا: لا يجوز الجمع بين البيع والكتابة؛ لأن البيع والكتابة بيعتان في بيعة، باعه نفسه واشتراها وباعه بيعة ثانية، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة.

قوله: [أو بيعٍ وصرفٍ].

يجوز الجمع بين البيع والصرف، والبيع والصرف موجود إلى زماننا هذا، تأتي مثلاً إلى صاحب البقالة وتشتري من عنده بعشرة ريالات فتعطيه خمسين ريالاً، فإذا أعطيته الخمسين فمعنى ذلك أن هناك بيعاً: وهي العشرة في مقابل الطعام الذي اشتريته، والأربعون الباقية سيعطيك بدلاً عنها الصرف، وهي الأربعون المتبقية من رأس المال الذي هو الخمسون، فحينئذٍ جمعت بين البيع والصرف، والجمع بين البيع والصرف مرخص فيه بشرط: ألا تفارقه حتى تقبض؛ لأنك إذا صرفت الذهب بالذهب والفضة بالفضة فلابد أن يكون يداً بيد، فلو أنك اشتريت بعشرة وبقيت أربعون من الخمسين فقال لك: اترك الباقي عندي، أو قلت له: سآتيك بعد ساعة أو بعد نصف ساعة، أو أخذ الخمسين منك وذهب للصرف دون أن يستأذنك وقع ربا النسيئة، فينبغي أن يتنبه لهذا.

وسيأتينا في باب الربا ما يسمى بربا النسيئة وربا الفضل، وهناك أصناف تسمى الأصناف الربوية وهي: الذهب والفضة والبر والتمر والشعير والملح، وهي الستة المنصوص عليها، وهناك أصناف مقيسة عليها، فهذه الأصناف الربوية يجري فيها ربا الفضل وربا النسيئة، فربا النسيئة يقول لك الشرع: إذا أعطيت هذا في مقابل هذا تعطي بيد وتأخذ بالأخرى، فإن أعطيته وأخّر في الإعطاء وافترقتما ولم يعطك وقع ربا النسيئة وهو التأخير، فهناك أشياء حرم عليك الشرع أن تؤخر قبضها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر حينما قال له: (إنه يبيع الإبل بالدراهم ويقتضي بالدنانير، قال: لا يحلّ لك أن تفارقه وبينكما شيء)؛ لأنه صَرَفَ الدنانير بالدراهم، وعلى هذا إذا صرفت الفضة بالفضة أو الذهب بالذهب أو الفضة بالذهب ينبغي أن يكون يداً بيد، فلو أعطيته خمسين ريالاً فإن أصلها فضة، فينبغي أن تُعطي وتأخذ في نفس مجلس العقد، فلو قال لك: ليس عندي صرف، فلو تأتيني بعد يوم، أو بعد ساعة، أو في أي وقت تأتيني أعطيك الباقي، فهذا يعتبر من الربا المحرم من جهة النسيئة وهو أشد نوعي الربا، وعلى هذا فلو أنه صرف المائة أو الخمسين ينبغي أن يعطيه بيد ويأخذ بأخرى، لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: (الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباً إلا هاء وهاء)، فاشترط عليه الصلاة والسلام أن يقبض بيد وأن يعطي بالأخرى، ويستثنى من هذا إذا قلت له: اذهب واصرف، أي: لو أن إنساناً جاء إلى محطة (البنزين) وعبأ بعشرة ريالات وأعطاه خمسين ريالاً وبقيت أربعون فقال لك: لا يوجد لدي صرف، تقول له: اذهب واصرف، فإذا قلت له: اذهب واصرف فقد وكلته بالصرف، فيذهب ويصرف ثم يعطيك ما تبقى لك، وهذا يعتبر وكالة منفصلة عن البيع الذي بينكما؛ لأنه لم يصرف من نفسه، وأما لو بقيت لك أربعون فقال لك: أعطيك الآن عشرين وأعطيك الباقي فيما بعد، تقول: لا، إمّا أن تعطيني الصرف كاملاً، أو يكون المبلغ الذي اشتريت به ديناً عليّ تسجله وأعطيك إياه في وقت ثانٍ.

وكان بعض العلماء يقول: إن الرجل قد يشيب عارضاه في الإسلام وهو يتبايع بالربا صباحَ مساءَ وهو لا يدري، وكثير من الناس يقع في هذه الأشياء وهو لا يدري، فينبغي التنبيه على مسألة ربا النسيئة فيجب أن يشترط في الذهب بالذهب والفضة بالفضة أن يكون الصرف يداً بيد، فإذا اشتريت سلعة وبقي الباقي صار عقد بيع وصرف، بيع لقيمة السلعة التي تشتريها، وصرف بالنسبة للباقي، فينبغي أن يعطيك الباقي كاملاً.

أما لماذا يشدّد الشرع في مسألة الصرف؟ فهذا سنتكلم عليه إن شاء الله في باب الربا، لكن من حكمة الله عز وجل أنك إذا جئت تصرف لابد أن يعطيك يداً بيد من أجل الحقوق، ولذلك يظهر لنا في مثل هذا سماحة الشريعة حينما تحفظ للناس حقوقهم من حيث لا يشعرون، فإذا جئت إلى بقالة أو جئت -مثلاً- إلى محل تريد أن تشتري من عنده بعشرة ودفعت له مائة ربما أخذ المائة منك ورماها في الصندوق فإذا قلت له: (أعطني الباقي)، قال: (أي باقي)، فينكر ويقول: لم آخذ منك شيئاً، وربما قال: هذه أربعون، تقول له: أعطيتك مائة والباقي تسعون، يقول: لا، أنت أعطيتني خمسين؛ لكن إذا كنت تعطي بيد وتأخذ بيد فحقك مضمون، والشريعة لا تريد أن يختل أحد أحداً أو يضر بأحد؛ لأنه ليس من العدل أن تدفع المائة ثم يظلمك ويقول: (ما أعطيتني) فهو بشر، وقد لا يقصد ذلك، وإذا رمى بخمسمائة ريال في الصندوق فكيف تثبت أنه أخذ منك خمسمائة، فالناس كلهم مشغولون عند الزحام، وهذا يقع، فالشريعة تحتاط للناس في حقوقهم، فإذا دفعت الخمسمائة وبقي لك الباقي تأخذ بيد وتعطي بأخرى، لماذا؟ لأنك تضمن حقك فلا تظلم ولا تُظلم، فإن أخذ منك ورماها ثم بعد ذلك قال: كم أعطيتني؟ حينئذٍ يقع الضرر فتذهب حقوق الناس ويختلون في حقوقهم المالية، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في حديث عمر في الصحيح: (الذهب بالذهب رباً -أي حرام- إلا هاء وهاء) (هاء وهاء) مثل قولك: (هه)، لما تعطي فيقول هو: (هه)، هذا هو معنى قوله: (هاء وهاء) أي: تعطي بيد وتأخذ باليد الأخرى، وعلى هذا فيجوز الجمع بين البيع والصرف إذا كان يداً بيد بالشرط المعتبر في الأصناف الربوية.

قال: [صحّ في غير الكتابة].

وهو البيع والصرف، ولكن الكتابة لا يصحُّ الجمع بينها وبين البيع كما ذكرنا.

قال: [ويُقسَّط العوض عليهما].

إذا حصل الفساد وقلنا: لا يصحُّ الجمع بين الكتابة والبيع يقسط العوض عليهما على حسب قيمة الكتابة من السلعة المبيعة، لو قال له: أبيعك داري وأكاتبك باثني عشر ألفاً، فدمجهما في صفقة واحدة صحّ في الكتابة بقسطها وبحقها، وهذا من باب التفريق بين الصفقتين كما ذكرنا في المجلس الماضي.

قال رحمه الله: [ويحرم بيعه على بيعِ أخيه: كأن يقول لمن اشترى سلعةً بعشرةٍ: أنا أعطيك مثلها بتسعةٍ].

هذا نوع من البيوع التي حرمها الله عز وجل وهو بيع المسلم على بيع أخيه، وهذا النوع من البيوع الأصل في تحريمه قوله عليه الصلاة والسلام: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) فقوله: (ولا يبع) نهي، وفي رواية: (ولا يبع أحدكم على بيع أخيه) وهو: أن تعرض سلعة في مقابل سلعة عرضها أخوك، وحينئذٍ لابد من التفصيل: فإذا جاء أخوك ليشتري سلعة من جارك وعندك نفس السلعة، فلا تخلو المسألة من أحوال:

الحالة الأولى: أن يتفق الطرفان على السلعة وعلى القيمة.

الحالة الثانية: ألا يتفقا ولا يرضى المشتري بالقيمة ولا يتراكنا ولا يوجبا البيع.

ففي الحالة الأولى وهي إذا تراكنا، فمثلاً قال له: بكم هذا الثوب؟ قال: بمائة، فرغبه المشتري وجلس يقلّبه قال: (لم لا تجعله بتسعين؟) قال: (لا بمائة)، قال: (بخمسة وتسعين)، قال: (بمائة)، قال هذا: (الثوب أعجبني)، فإذا جئت في هذه الحالة وقد تراكنا، أي: كاد أن يميل أحدهما للآخر، أو قال له: رضيت؛ لكن لم يفترقا حتى يتم البيع وقلت له: عندي ثوب مثله بتسعين أو بخمسة وتسعين، أو أنا أبيعك بأقلّ مما باعك جاري، فهذا مما حرّمه الله ورسوله؛ والسبب في هذا: أن البيع صار وسيلة لقطع أواصر الأخوة بين المسلمين، وهذا من الإضرار، ويجعل العلماء هذا الحديث وهذا الحكم مندرجاً تحت قاعدة: (الضرر يزال)، وليس من حقك أن تُضِرَّ بأخيك المسلم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث: (لا ضرر ولا ضرار)، فلا يرضى الإنسان لنفسه أن يُضَر من أخيه المسلم، وكذلك أيضاً لا يجوز له أن يضر بأخيه المسلم، وعلى هذا لا يجوز بيع المسلم على بيع أخيه لما ذكرناه. وهذا بالنسبة لحالة التراكن.

لكن لو قال له: أبيعك هذا الثوب بمائة أو بعشرة -كما تقدم- ، فقال المشتري: لا أريد، فقلت أنت: أبيعك ثوبي بتسعة أو بتسعة ونصف أو بثمانية صح؛ لأنه قال: لا أريد، فانصرف عن البيعة الأولى وانصرفت همته عن البائع الأول، فصرت أنت وإياه على حد سواء، ولا بأس في هذه الحالة أن تبيع وتعرض سلعتك؛ لأنه مأذون لك بالبيع إعمالاً للأصل.

قال رحمه الله: [وشراؤه على شرائه: كأن يقول لمن باعَ سلعةً بتسعةٍ: عندي فيها عشرةً].

كما لا يجوز بيع المسلم على بيع أخيه كذلك لا يجوز شراؤه على شراء أخيه، أي: يسوم على سوم أخيه المسلم فمثلاً: هناك عمارة أو أرض عرضها رجل للبيع، ولما عرضها جاء الناس يشترون ويسومون، فالسوم لا يخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن تعرض العمارة أو الأرض ويترك الخيار للجميع يسومون ويزيدون، مثل بيع المزايدة أو ما يقع في حراج السيارات من عرض السيارات للمزايدة، فيجوز لك في هذه الحالة أن تزيد الثمن على أخيك؛ لأنه بيع مزايدة، ولم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حرم بيع المزايدة. وهناك حديث ضعيف: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المزايدة)، لكنه حديث ردّه العلماء، وممن ضعفه الإمام البخاري رحمه الله، لكن يكون الإشكال إذا حصل البت بين البائع والشاري فيأتي آخر ويقطع بينهما، فلو عرضت السيارة مثلاً في الحراج وثبت السعر والمزاد، فلا يجوز لك أن تأتي وتقطع ما بين الطرفين، أي: إذا بتا ورضيا على أن السيارة تباع بعشرة آلاف فقد سام أخوك بعشرة آلاف ورضي البائع بيعها بعشرة آلاف، فلا يجوز في هذه الحالة أن تقول: أعطيك فيها خمسة عشر.. أعطيك فيها أحد عشر.. أعطيك فيها اثني عشر؛ لأنك سمت على سوم أخيك بعد التراكن، فبعد ركون البائع للمشتري وحصول الطمأنينة في الثمن لا يجوز أن تسوم على سوم أخيك، وعلى هذا حمل قوله: (ولا يَسِمُ المسلم على سوم أخيه)، (نهى أن يسوم الرجل على سوم أخيه)، أي: أخيه المسلم. يبقى السؤال بالنسبة للذمي الكافر: فلو أن كافراً عرض سلعته بمائة وأنت سلعتك عرضتها بتسعين، وجاء رجل يريد أن يشتري من الكافر فقلت له: أنا عندي نفس السلعة بتسعين فظاهر الحديث تحريم بيع المسلم على بيع أخيه، وهذا مفهومه أنه إذا كان كافراً وليس من إخوانه -كما يقوله بعض العلماء- أنه يجوز أن يبيع على بيعه، وأن يسوم على سومه.

قال رحمه الله: [ليفسخَ ويعقد معه، ويبطل العقد فيهما].

أي: ليفسخ البائع الثاني بيع الأول ويعقد معه على سلعته وصفقته واللام للتعليل أي: من أجل أن يفسخ، ومراده بقوله (ليفسخ) أي: يفسخ البيعة الأولى لأخيه المسلم، أو من أجل أن يفسخ بالسوم الثاني السوم الأول، وهذا يدل على أن السوم الأول قد ثبت؛ لأنه قال: يفسخ، معناه: أنه إذا كان أثناء المزايدة وأثناء العرض أنه لا بأس به، فخِطْبة الرجل على خِطْبة أخيه المسلم، وبيعه على بيع أخيه المسلم، وشراؤه على شراء أخيه المسلم كله محرم، وشرطه إذا حصل التراكن، لكن لو أنهما امتنعا عن إتمام العقد فيجوز للثالث أن ينشئ عقداً جديداً، كما لو أن تقدم لها رجل فلم ترضه أو امتنعت فتجوز خطبة الثاني؛ لأنها لم ترض بالأول، وهكذا إذا لم ترغبه ولم تبت فيه ولم يحصل التراكن يجوز خطبة الثاني، لما ثبت في الصحيح من حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: (يا رسول الله! إن معاوية بن أبي سفيان وأبا الجهم قد خطباني، فقال صلى الله عليه وسلم: أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو الجهم فرجل لا يضع العصا عن عاتقه، انكحي أسامة )، فأمرها صلى الله عليه وسلم بنكاح الثالث، وهذا يفسر معنى قوله: (لا يبع على بيعه، ولا يخطب على خطبته) وهذا يكون في حالة التراكن والميل، أمّا إذا كان السوق سوق عرض، فقام أحدهم يصيح: بعشرة، والثاني يصيح: بتسعة، والثالث يصيح: بثمانية، فهذه أسواق المسلمين كلٌ يبيع سلعته ويعرض، ويصبح التنافس تنافساً شريفاً أو يكتب على محله السلعة بكذا، أو البضاعة الفلانية بكذا، فهذا تنافس شريف لا إشكال فيه.

فلما قال: (ليفسخ) دل على أن العقد الأول أوجب وتراكنا مع بعضهما، وأن الثاني دخل على الأول إمّا بيعاً وإمّا شراء ففي كلتا الحالتين يحرم، وهكذا بالنسبة للخطبة على الخطبة، كما سيأتي إن شاء الله في باب النكاح.

قال: [ويبطل العقد فيهما].

اختلف العلماء إذا باع على بيع أخيه أو سام على سوم أخيه فقال بعض العلماء: البيع الثاني باطل، كما هو مذهب الحنابلة والظاهرية وطائفة من أهل الحديث.

وقال جمهور العلماء: البيع الثاني صحيح، ولكنه يأثم ببيعه على بيع أخيه المسلم؛ لأن أركان البيع وشروطه تامة، وهذا ما يسمى بمسألة: هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه؟

والصحيح -كما ذكرنا غير مرة-: أن النهي إذا لم يرجع إلى ذات المنهي عنه فلا يقتضي الفساد، وأن هذا يعتبر من باب انفكاك الجهة، فنقول: البيع صحيح؛ لأنه اشترى بالقيمة من مالك حقيقي برضا الطرفين في شيء معلوم وتوفرت شروط صحة البيع، فالبيع صحيح ومأمور بإتمامه؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] ، لكن كونه أساء إلى أخيه المسلم وظلمه بالدخول عليه فهو آثم بهذا الفعل، وعلى هذا لا يحكم بفساد الصفقة الثانية، وهذا هو الصحيح.