شرح زاد المستقنع باب محظورات الإحرام [2]


الحلقة مفرغة

المحظور السابع: عقد النكاح للمحرم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف عليه رحمة الله: [ ويحرم عقد نكاح ولا يصح ولا فدية ].

ما زال المصنف رحمه الله يبين لنا محظورات الإحرام، فقال رحمه الله: (ويحرم عقد نكاح)، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز للمحرم أن يعقد النكاح، سواء كان في حج أو كان في عمرة، ولذلك يعتبر عقد النكاح المحظور السابع من محظورات الإحرام التي ذكرها المصنف رحمه الله.

والعقد في اللغة: التوثيق، يقال: عقد الحبل إذا شد وثاقه، وكذلك يقال: عقد إذا أبرم الشيء، وأما في الاصطلاح: فإن المراد به الإيجاب والقبول، فالإيجاب هو قول الرجل: زوجتك، والقبول قول الزوج: قبلت، فإذا قال الولي: زوجتك، وقال الزوج: قبلت، فقد عُقد النكاح، وإذا قال الموجب: بعتك، وقال المشتري: اشتريت، فقد عُقد البيع، وإذا قال: أجرتك داري بمائة ألف لمدة سنة، فقال: قبلت، فهو عقد إجارة، وقس على ذلك.

فإذا وجدت الصيغة المشتملة على الإيجاب والقبول فإنه يوصف ذلك بالعقد، وهذا في الاصطلاح عند العلماء رحمة الله عليهم، فإذا وجدت كتب الفقهاء ينصون فيها على كلمة العقد فمرادهم بها الإيجاب والقبول، وعلى هذا يقول المصنف: (يحرم عقد النكاح) أي: يحرم على الإنسان إذا أحرم بالحج أو العمرة أن يتزوج أو يزوج غيره، كأن يكون ولياً لبنت أو أخت أو امرأة من أقربائه، أو تكون المرأة المحرمة بحج أو عمرة منكوحة، بمعنى: أنه يراد تزويجها، فلا يجوز أن يعقد النكاح، سواء كان زوجاً أو كانت زوجة، خاصة على القول بأن للمرأة أن تلي عقد النكاح كما هو مذهب الحنفية، وكذلك أيضاً أن تكون ولياً.

دليل التحريم ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب)، وهذا الحديث اتفق الشيخان على صحته وثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله: (لا ينكح المحرم) لم يفرق بين محرم لحج أو عمرة (ولا يُنكح) أي: إذا كان امرأة، وهذا يدل على أنه لا يجوز له أن يكون في عقد النكاح لا زوجاً -وهو الأصيل- ولا وكيلاً، فلا يجوز للمحرم أن يكون وكيلاً في عقد النكاح بأن يقبل النكاح من غيره، أو يوجبه للغير.

وهذه المسألة للعلماء فيها قولان:

القول الأول يقول: لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا أن ينكح ولا أن يخطب، وهذا هو مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية رحمة الله على الجميع، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على المحرم عقد النكاح سواء كان زوجاً أو زوجة أو ولياً أو وكيلاً، وذلك هو نص الحديث الثابت عنه والذي ذكرناه.

القول الثاني: ذهب فقهاء الحنفية رحمهم الله إلى القول بجواز أن ينكح المحرم وأن يُنكح، وأن يخطب، لكن بعضهم ينص على جوازه مع الكراهة، أي: أنه يكره له ذلك، ولكن يجوز، والعقد صحيح، واحتج هؤلاء العلماء بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم) ، فأثبت أن الزواج من رسول الله صلى الله عليه وسلم لـميمونة وقع وهو محرم، قالوا: فدل دلالة واضحة على أنه يجوز للمحرم أن يتزوج وأن يزوج الغير وأن يخطب، وأما ما ورد من النهي عن النبي صلى عليه وسلم فإن فعله صلوات الله وسلامه عليه يصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، وهذا مسلك يعمل به جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم: وهو أنه إذا ورد النهي وجاء ما يدل على الجواز صرف ظاهر النهي من التحريم إلى الكراهة.

والذي يترجح بنظري والعلم عند الله: هو القول بالتحريم، وهو مذهب جمهور السلف كما ذكرنا؛ وذلك لما يلي:

أولاً: لصحة دلالة السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحريم.

ثانياً: أنه يجاب عن حديث ابن عباس من وجوه:

الوجه الأول: أن القاعدة: إذا تعارضت رواية أكابر الصحابة مع رواية أصاغر الصحابة قدمت رواية أكابر الصحابة على الأصاغر؛ والسبب في هذا واضح، وهو أن أصاغر الصحابة في الغالب يروون بواسطة، وأكابر الصحابة في الغالب يروون مباشرة، فتقدم رواية الأكابر؛ لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمهم بحاله أكثر من أصاغر الصحابة.

الوجه الثاني: أن حديث ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم) عارضته ميمونة صاحبة القصة، وعارضه أبو رافع السفير بين النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة ، ومن المعلوم أن ميمونة رضي الله عنها -وهي خالة ابن عباس - أعلم بحال النبي صلى الله عليه سلم حينما تزوجها، فلما أثبتت أنه تزوجها وهو حلال، دل هذا على ضعف ما ذكره ابن عباس ، ومن هنا قال الإمام أحمد : إن هذا الحديث خطأ، وهذا الخطأ قد يكون من الرواة أو يكون من سماع ابن عباس عن غيره من الصحابة رضوان الله عليهم.

وهناك وجه ثالث في الترجيح: أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما له معارض، وحديث التحريم صريح في التحريم لم ترد له صيغة معارضة، وإذا تعارض النصان أحدهما له وجه معارض، والآخر لا معارض له قدم الذي لا معارض له؛ لأن له مزية، وأنت إذا تأملت أحاديث النهي لم تجد ما يعارضها في الروايات نفسها، ولكن إذا تأملت حديث ابن عباس الذي يدل على الإباحة تجد أنه قد عارضه أبو رافع وعارضته ميمونة فلم يتمحض حديث ابن عباس في القوة في الدلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حلالاً.

الوجه الرابع في الترجيح: أن القاعدة أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح أنه يقدم النص الحاظر على النص المبيح؛ لما فيه من زيادة العلم، ولما فيه من زيادة الاحتياط، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقديم نهيه على أمره، فكيف بتقديم نهيه على ما يكون من حاله محتملاً الخصوصية، فهذا من باب أولى وأحرى، ولذلك قال: (إذا نهيتكم فانتهوا)، وقال في الأمر: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ، فهذا يدل على قوة أدلة التحريم ورجحانها على أدلة الجواز.

الوجه الخامس: أن حديث ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم) يحتمل أن يكون خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصيات حتى في النكاح، ولذلك قال سبحانه: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]، فالله خصه بخصائص كما نص على ذلك كتاب الله عز وجل: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41] .

فلما خاطب عليه الصلاة والسلام عموم الأمة بقوله: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب) دل على أننا مطالبون بامتثال هذا النهي، ولما فعل هو عليه الصلاة والسلام -على القول بأنه تزوجها وهو محرم- فإننا نقول: هذا خاص به؛ لأن القاعدة: إذا تعارضت دلالة القول مع دلالة الفعل احتملت دلالة الفعل الخصوصية، فتقدم دلالة القول؛ لأنها تشريع للأمة.

الوجه السادس: أن قول ابن عباس: (تزوج ميمونة وهو محرم) كما أنه ضعيف من جهة السند فلا يقوى على معارضة النص الصحيح الصريح فإننا نقول: هو في لفظه محتمل؛ وذلك أن قول ابن عباس: (تزوج ميمونة وهو محرم) يحتمل أن يكون مراده: (وهو محرم) أنه عقد عليها داخل حدود الحرم، وهذا له مغزىً دقيق، وهو من فقه ابن عباس، كأنه يريد أن ينبه على مسألة فقهية من مسائل الهجرة، وذلك أن من هاجر من بلد فإنه لا يرجع إليه إذا تركه لله ورسوله، ولذلك ثبت في النص الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكن البائس سعد بن خولة ) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.

ولذلك قال العلماء: من خرج من بلد كفر مهاجراً عنها فإنه لا يرجع إليها، ولذلك لم يرجع المهاجرون إلى مكة إلا بقدر الحاجة، وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهم في الإقامة فيها ثلاثة أيام فقط، فدل على أنه لا يجوز لمن هاجر من بلد أن يقيم فيها بعد هجرته؛ لأنه تركها لله عز وجل، ولو عادت بلد إسلام بعد ذلك، وإذا ثبت هذا ورد سؤال هو: هل يجوز له أن يتزوج من أهل هذا البلد؟ وهل زواجه من أهل هذا البلد وعقده فيه يعتبر بمثابة الإقامة؟ فرد ابن عباس رضي الله عنهما هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، أي: داخل حدود الحرم، والعرب تسمي من كان داخل الحدود محرماً، ومنه قول حسان بن ثابت يرثي عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع:

قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً

ومن المعلوم أن عثمان إنما قتل في حرم المدينة ولم يقتل وهو محرم بالحج أو بالعمرة، فدل على أن من كان داخل حدود حرم مكة أو حرم المدينة فإنه يوصف بكونه محرماً.

فالعرب تسمي من دخل في الزمان الحرام -كالأشهر الحرم- أو دخل في المكان الذي له حرمة، تسميته محرماً، وعلى هذا يكون حديث ابن عباس له مغزىً خارج عن مسألتنا، أي: أنه لا يدل على أنه تزوجها حال إحرامه صلوات الله وسلامه عليه.

وبناء عليه يترجح مذهب الجمهور الذين يقولون بأنه لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا أن يُنكح ولا أن يخطب، وهذا الحكم يستوي فيه أن يكون المحرم أصيلاً عن نفسه، كأن يتزوج لنفسه، أو وكيلاً عن غيره، كأن يقول له رجل: اذهب واخطب لي فلانة، وأنت وكيلٌ عني، فإن الوكيل ينزل منزلة الأصيل، وعلى هذا فإنه يستوي أن يكون وكيلاً عن محلّ أو وكيلاً عن محرم، ويستوي في ذلك أن يكون الوكيل ذاته وكيلاً عن إنسان محرم، أو يكون في حال إحرامه كما ذكرنا.

حكم عقد النكاح إذا قام به المحرم

قال رحمه الله: [ويحرم عقد نكاح، ولا يصح، ولا فدية].

أي أنه لو وقع الإيجاب والقبول من المحرم زوجاً أو ولياً فإنه لا يصح، وهذا مذهب طائفة من العلماء، ويركبونه من أن النهي هنا استغرق زماناً لا يصح فيه الإيجاب والقبول، كأن الشرع جعل هذا مدة، إحرام الإنسان إلى أن يتحلل غير صالحة للإيجاب والقبول، فإذا وقع الإيجاب والقبول لم يقع معتداً به شرعاً، وحينئذٍ يكون من اللغو، فوجوده وعدمه على حد سواء، لكن لو عقد وهو محرم وتزوج المرأة ودخل بها وجاء له منها أولاد، فإن هذا يعتبر نكاح شبهة إذا كان يظن أن هذا جائز، ولكن لا يوجب حرمة نسله؛ لأن نكاح الشبهة كما هو معلوم تسري عليه أحكام النكاح الصحيح، ولكن يفسخ ثم يطالب بتجديده بعد ذلك.

قوله: [ولا فدية].

أي: أن هذا المحظور ليست فيه فدية، فلو أن رجلاً سألك وقال: عقدت نكاحاً وأنا محرم بحج أو عمرة، فما الحكم؟ تقول له: إن النكاح لا يصح ولا فدية عليك، وإنما عليه الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل.

حكم مراجعة المطلقة حال الإحرام

قال: [وتصح الرجعة]:

أي: إذا كان النكاح لا يصح، والخطبة لا تجوز، حيث لا يجوز للمحرم أن ينكح، ولا أن يُنكح ولا أن يخطب، فالسؤال: لو أن رجلاً طلق امرأته طلاقاً رجعياً، ثم ارتجعها في عدتها، فهل الرجعة تأخذ حكم الابتداء؟

أولاً -حتى تكون الصورة واضحة-: إذا طلق الرجل امرأته فإن طلاقه لا يخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون طلاقاً رجعياً.

والحالة الثانية: أن يكون طلاقاً بائناً.

فأما الطلاق الرجعي فهو: أن يطلقها الطلقة الأولى، فالشرط فيها: أن تكون الطلقة بعد الدخول، وأن تكون في غير خلع.

فإذا طلقها طلقة واحدة بعد دخوله بها في غير خلع وفي غير طلاق من القاضي أو من الحكمين -على القول بأن طلاق القاضي والحكمين يوجب البينونة- فحينئذٍ تبقى المرأة في عدتها من الطلقة الأولى، ما لم تضع حملها، أو تستتم الثلاثة الأشهر إن كانت من ذوات الأشهر، أو تمضي عليها ثلاثة قروء إذا كانت من ذوات الأقراء، وخلال هذه المدة يجوز له أن يرتجعها ولو بغير رضاها.

فلو أن رجلاً طلق امرأته بعد الدخول طلقة واحدة ثم أراد أن يراجعها في أي وقت، فما دام أنها لم تخرج من عدتها، فإنه تصح رجعته وتلزم المرأة بالرجوع بغير رضاها، حتى ولو كان يريد أن يرجعها بدون رضاها؛ لأن الله تعالى يقول: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228] .

فمن حقه أن يرتجع زوجته ما دامت في عدتها، وإذا ثبت أن من حقه أن يرتجعها ما دامت في عدتها فهذا يسمى بالطلاق الرجعي، ويقع بعد الطلقة الأولى ويقع بعد الطلقة الثانية، أما لو طلقها الطلقة الثالثة فإنها تبين منه، وتكون البينونة هنا بينونة كبرى؛ لأن الطلاق البائن ينقسم إلى قسمين:

طلاق بائن بينونة كبرى.

وطلاق بائن بينونة صغرى.

فالمطلقة طلاقاً بائناً بينونة كبرى هي التي لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وهذا بينه الله تعالى بقوله: فَإِنْ طَلَّقَهَا [البقرة:230] يعني: الطلقة الثالثة فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة:230] فنص سبحانه على حرمة ارتجاعه لها، وأنه لا يجوز له أن ينكحها إلا بعد أن تنكح زوجاً غيره، ويذوق عسيلتها وتذوق عسيلته، كما ثبت في السنة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

والبينونة الصغرى تقع على صور:

منها: أن يطلقها قبل الدخول، كأن يعقد على امرأة ثم يحصل بينه وبينها ما يحصل فيقول لها: أنت طالق، فإذا طلقها قبل الدخول فإنها تبين منه بينونة صغرى.

والفرق بين البينونة الصغرى والكبرى: أن البينونة الصغرى يستحق فيها أن يرتجع المرأة لكن بعقد جديد، ولكن لا يلزمها أن ترجع إليه إلا برضاها، بمعنى أنها لو امتنعت أو امتنع وليها فمن حقها ذلك ولا يستطيع ارتجاعها، على خلاف الرجعية فلا خيار لها.

ففارقت البينونة الصغرى الرجعية بأن الرجعية يردها على رغم أنفها حتى ولو أبت، وأما في البينونة الصغرى فإنه لا يمتلك ارتجاعها إلا بعقد جديد فهي كالأجنبية، ولكن يجوز له أن يرتجعها.

والفرق بين البينونة الصغرى والكبرى: أن في الكبرى لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، وفي البينونة الصغرى تحل له بعقد جديد ولا يشترط أن تنكح زوجاً غيره.

وعلى هذا يرد السؤال في هذا النوع من الطلاق وهو الطلاق الرجعي:

لو أن زيداً من الناس قال لامرأته: أنت طالق، ثم أحرم بحج وعمرة، فأراد أن يرتجعها، فهل يجوز له أن يرتجعها أثناء تلبسه بالإحرام بحج أو عمرة، هذه هي صورة المسألة.

والجواب: أنه يجوز له أن يرتجعها؛ لأن الاستدامة لا تأخذ حكم الابتداء، فاستدامة المحظور ليست كابتدائه، ومثل هذا أنه يجوز أن يستصحب الطيب في بدنه إذا تطيب قبل إحرامه، كذلك يجوز له أن يستديم النكاح؛ لأنه ثابت قبل إحرامه؛ لأن المرأة الرجعية في حكم المرأة التي في عصمة الإنسان، فإنه حينئذٍ يجوز له أن يرتجعها ولو كان في حج أو عمرة.

فلو سألك سائل وقال: إن الله عز وجل حرم على المحرم أن ينكح أو يُنكح أو يخطب كما ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد طلقت زوجتي طلقة واحدة أو الطلقة الثانية، وأريد أن أرتجعها أنا محرم، فهل يجوز لي ذلك؟

تقول: نعم، يجوز لك ذلك؛ لأن الارتجاع ليس كالعقد، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم النكاح ولم يحرم الارتجاع، فدل على أنه باقٍ على الأصل الذي يدل على جوازه ومشروعيته، فيجوز له أن يرتجع امرأته.

المحظور الثامن: الجماع

قال المصنف رحمه الله: [وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول فسد نسكهما].

هذا المحظور الثامن من محظورات الإحرام: وهو الجماع، وقد حرم الله عز وجل على المحرم ثلاثة أمور في النساء:

الأول: أن يعقد.

والثاني: أن يباشر بما دون الفرج.

والثالث: أن يجامع.

فهذه ثلاثة محظورات ذكرها المصنف مرتبة، فابتدأ بالعقد ثم أتبعه بالجماع ثم أتبعه بالمباشرة، وأعلاها وأقواها الجماع.

فالجماع محرم بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، ولذلك قال تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البقرة:197] ، فحرم الله عز وجل الرفث الذي هو مقدمات الجماع، بل قالوا: إنه أقل ما يقال من الكلمات التي تثير النساء، فإذا حرم الله عز وجل الكلمة اليسيرة التي تثير الشهوة كما نص على ذلك جمهور السلف رحمهم الله فالجماع أولى.

فسر ابن عباس وعطاء وغيره من تلامذته رحمة الله عليهم جميعاً الرفث، فقالوا: إن المراد بالرفث الكلمات التي تستثار بها غرائز النساء، فلا تحل ولا تجوز للمحرم، فهي من المحظورات؛ فإذا حرم هذا فمن باب أولى الجماع، ولذلك انعقد الإجماع على أنه لا يجوز الجماع في الحج ولا في العمرة، فلو وقع الجماع فلا يخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون قبل الوقوف بعرفة.

والحالة الثانية: أن يكون بعد الوقوف بعرفة.

فإن وقع الجماع قبل الوقوف بعرفة، أي: قبل أن يستتم وقوفه بعرفة وينصرف منها، فإن حجه باطل بإجماع العلماء رحمة الله عليهم، فمن جامع أهله في يوم التروية وهو محرم بالحج أو جامعهم صبيحة يوم عرفة أو عشية عرفة قبل أن يدفع، فإنه حينئذٍ يفسد حجه.

وبعض العلماء يقول: ما لم يقف بعرفة، وعلى هذا فإن الجماع إذا وقع قبل استتمام الوقوف والاعتدال به فإنه يعتبر موجباً لفساد الحج.

وإذا فسد الحج فإنه يلزمه أن يمضي في هذا الحج الفاسد، والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، والحج والعمرة عبادتان لو أفسدهما المكلف ألزم بإتمامهما مع الفساد بإجماع العلماء؛ لأن الله أمر بإتمام هذين النسكين ولم يفرق بين فاسد أو صحيح.

ولذلك قالوا: من جاء بعمرة ولبى وأحرم ثم بعد الإحرام ولو بلحظة قال: لا أريد العمرة، وأراد أن يفسخ عمرته فإنه يبقى محرماً إلى الأبد حتى يؤدي عمرته؛ لأن الله قال: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فهذا يدل على أن النسك لا بد من إتمامه على وجهه المعتد به شرعاً، قالوا: فإذا وقع جماعه قبل وقوفه بعرفة فإنه حينئذٍ يحكم بفساد الحج على الأصل، وهذا محل إجماع، ثم يطالب بإتمام وقوفه، والمضي في بقية مناسكه، ثم عليه الحج من قابل وعليه بدنة، وهذا قضاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجامع.

قضى به عمر وعلي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وبه قال أبو هريرة رضي الله عن الجميع، فهؤلاء الصحابة الأجلاء قالوا بهذا، وحكموا به، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على أنه لو وقع الجماع قبل الوقوف بعرفة أنه يوجب فساد الحج، وعلى من جامع والمرأة التي جومعت المضي في حجهم الفاسد، ثم عليهم الحج من قابل، يستوي أن يكون جماعه لامرأة تحل له، أو بشبهة كخطأ في الوطء، أو بحرام كزناً، أو نحو ذلك من المحرمات فإنه يعتبر حجه فاسداً وجهاً واحداً عند العلماء رحمة الله عليهم.

وأما إذا وقع الجماع بعد الوقوف بعرفة فلا يخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون قبل التحلل الأول.

والحالة الثانية: أن يكون بعد تحلله الأول.

فإذا وقع الجماع قبل التحلل الأول فقد أشار إليه المصنف رحمه الله بقوله:

[وإن جامع المحرم قبل التحلل الأول فسد نسكهما].

بأن وقف بعرفة، ثم مضى إلى مزدلفة، فوقع جماعه ليلة المزدلفة، فهذا يعتبر قبل التحلل الأول، فاختلف العلماء فيه على قولين:

القول الأول يقول: إذا وقع الجماع قبل التحلل الأول فسد حجه، وبه قال الجمهور، كما يفسد قبل الوقوف بعرفة.

والقول الثاني يقول: إذا وقع جماعه بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول فحجه صحيح، وهو مذهب الحنفية.

والقول: بأن حجه فاسد أقوى، وقد قال الحنفية، حجه صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة)، قالوا: فإذا وقف بعرفة ووقع جماعه بعد وقوفه فإننا لا نحكم بفساد حجه، وقد قال عليه الصلاة والسلام لـعروة بن مضرس : (من صلى صلاتنا هذه، ووقف موقفنا هذا، وكان قد أتى عرفات أي ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه وقضى تفثه) .

والصحيح ما ذهب إليه الجمهور؛ لأنه إذا كان قبل التحلل الأول فإنه في حكم ما إذا كان قبل الوقوف بعرفة؛ وذلك لبقاء الركن وهو طواف الإفاضة.

وقد صحح بعض العلماء مذهب الجمهور: أنه إذا وقع جماعه بعد الوقوف بعرفة وقبل التحلل الأول فإن حجه يعتبر فاسداً؛ وذلك لأن الشرع قد جعل هذا التحلل لمعنى، ولذلك يستوي فيه أن يكون الإخلال قبل الوقوف بعرفة أو بعد الوقوف بعرفة؛ لأنه ما وصف بكونه تحللاً إلا وهو مؤثر في حل النكاح، وموجباً لجوازه، فكأن النكاح يتأقّت والجماع يتأقّت بهذا التحلل، فاستوى أن يقع الإخلال قبله مباشرة أو قبل الوقوف بعرفة.

فمسلك الجمهور من جهة النظر قوي، ولذلك قال الله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] حتى يحصل التحلل الكامل، فقالوا: إن التحلل ينقسم إلى قسمين:

تحلل أول، وتحلل عام، وهو الذي يقع بعد طوافه للإفاضة.

فقالوا: إذا كان الشخص قد وقع منه الإخلال قبل التحلل الأول، فإنه في حكم من جامع قبل الوقوف بعرفة، وهذه المسألة توقفت فيها كثيراً، وكنت لا أفتي فيها لتعارض النظر فيها، ولذلك أحكي فيها مذاهب العلماء على ما ذكره أهل العلم رحمهم الله.

قال: [ويمضيان فيه ويقضيانه ثاني عام].

هذا قضاء الصحابة: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم أجمعين.

المحظور التاسع: مباشرة المرأة

قال رحمه الله: [وتحرم المباشرة].

هذا هو المحظور الأخير، أشار إليه رحمة الله عليه بقوله: (وتحرم المباشرة) أي: لا يجوز للمحرم أن يباشر زوجته بتقبيل أو غمز أو نحو ذلك مما يستمتع به من المرأة فيما دون الجماع، لقوله سبحانه: فَلا رَفَثَ [البقرة:197] وهو يشمل الرفث بالقول والرفث بالفعل، لأن النفي المسلط على النكرة يفيد العموم. أي: لا رفث عموماً، سواء كان بقول أو كان بفعل، فلا يجوز للرجل أن يستمتع بامرأته بما دون الفرج على أي وجه كان.

وقوله: [فإن فعل فأنزل لم يفسد حجه وعليه بدنة ].

أي: فإن فعل المباشرة، فلا يخلو من حالتين:

إما أن يفعل المباشرة ولا يقع منه شيء، وإما أن يفعل المباشرة ويقع منه شيء.

فإن فعل المباشرة ولم ينزل ولم يمذِ فلا إشكال في صحة حجه، وعدم تأثير المباشرة في تلك الصحة، ولكنه آثم، ويعتبر نقصاناً في أجره، وإذا تاب تاب الله عليه.

ولكن لو باشر فأنزل، فإن الإنزال لذة وهي تقارب اللذة الكبرى بالجماع، ولكن لا يفسد حجه؛ لأن الأصل صحة الحج حتى يدل الدليل على الفساد، وإنما وقع إجماع الصحابة وفتوى الصحابة على الفساد بالجماع، وبقي ما عدا الجماع على الأصل من كون الحج صحيحاً حتى يدل الدليل على الفساد؛ لأن الأركان والشرائط موجودة، فقالوا حينئذٍ: يحكم بصحة حجه؛ لأنه لم يصل إلى الجماع الذي يفسد الحج كما عليه فتوى الصحابة، وعليه العمل، فحينئذٍ يلزمه أن يجبر هذا النقص.

وقضوا فيه بالبدنة، والأصل أنهم نظروا إلى أن فعل الصحابة رضوان الله عليهم حينما أفسدوا الحج أفسدوه بالجماع، وقضوا بالبدنة حينما نظروا إلى وجود الإنزال غالباً في الجماع، فقالوا: إذا حصل الإنزال فإنه حينئذٍ يلزمه أن ينحر بدنة؛ جبراً لهذا النقص، وهو مبني على النظر، وله أصل من فتوى الصحابة من جهة العلة كما ذكرنا، وبناء عليه قالوا: لا بد من وجود الإنزال، ويستوي أن يكون الإنزال بالمباشرة، وحقيقة المباشرة أن تفضي البشرة إلى البشرة، أو يكون الإنزال بالاحتكاك سواء كان بحلال أو بحرام، فإنه لو تحكك واستثيرت غريزته على الوجه المحظور فإنه حينئذٍ يلزمه ما ذكرنا من جبر النقص؛ لقول من قلنا من أهل العلم، ويختاره المصنف وفقهاء الحنابلة رحمهم الله.

لو حصل منه إمذاء، والمذي دون الإنزال، وهي القطرات التي تخرج عند بداية الشهوة، فلو باشر امرأته فحصل منه الإمذاء فإنه لا يفسد حجه بالإجماع، ولا يلزمه بدنة، وإنما عليه الندم والتوبة والاستغفار.

فهذه أحوال:

الحالة الأولى: أن يباشر ويقع الجماع، وذلك إما أن يكون قبل الوقوف بعرفة أو يكون بعد الوقوف بعرفة، على التفصيل الذي بيناه.

الحالة الثانية: أن تكون المباشرة بإنزال ولا يقع فيها جماع، فحينئذٍ يبقى الحج صحيحاً ويلزم ببدنة. وقال بعض أهل العلم: إذا وقع هذا قبل التحلل الأول فإنه ينزل إلى الحل ويأتي بعمرة حتى يقع طوافه للإفاضة على صورة معتبرة دون وجود نقص أو إخلال.

الحالة الثالثة: إذا وقعت المباشرة ولم يحصل بها إنزال ولا جماع، وإنما وقع بها الإمذاء، فإنما عليه التوبة والندم والاستغفار.

قال: [لكن يحرم من الحل لطواف الفرض].

فيمضي إلى التنعيم أو يمضي إلى عرفات أو غيرها مما هو خارج عن حدود الحرم ويأتي بعمرة، حتى يقع طوافه في نسك لا إخلال فيه.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف عليه رحمة الله: [ ويحرم عقد نكاح ولا يصح ولا فدية ].

ما زال المصنف رحمه الله يبين لنا محظورات الإحرام، فقال رحمه الله: (ويحرم عقد نكاح)، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز للمحرم أن يعقد النكاح، سواء كان في حج أو كان في عمرة، ولذلك يعتبر عقد النكاح المحظور السابع من محظورات الإحرام التي ذكرها المصنف رحمه الله.

والعقد في اللغة: التوثيق، يقال: عقد الحبل إذا شد وثاقه، وكذلك يقال: عقد إذا أبرم الشيء، وأما في الاصطلاح: فإن المراد به الإيجاب والقبول، فالإيجاب هو قول الرجل: زوجتك، والقبول قول الزوج: قبلت، فإذا قال الولي: زوجتك، وقال الزوج: قبلت، فقد عُقد النكاح، وإذا قال الموجب: بعتك، وقال المشتري: اشتريت، فقد عُقد البيع، وإذا قال: أجرتك داري بمائة ألف لمدة سنة، فقال: قبلت، فهو عقد إجارة، وقس على ذلك.

فإذا وجدت الصيغة المشتملة على الإيجاب والقبول فإنه يوصف ذلك بالعقد، وهذا في الاصطلاح عند العلماء رحمة الله عليهم، فإذا وجدت كتب الفقهاء ينصون فيها على كلمة العقد فمرادهم بها الإيجاب والقبول، وعلى هذا يقول المصنف: (يحرم عقد النكاح) أي: يحرم على الإنسان إذا أحرم بالحج أو العمرة أن يتزوج أو يزوج غيره، كأن يكون ولياً لبنت أو أخت أو امرأة من أقربائه، أو تكون المرأة المحرمة بحج أو عمرة منكوحة، بمعنى: أنه يراد تزويجها، فلا يجوز أن يعقد النكاح، سواء كان زوجاً أو كانت زوجة، خاصة على القول بأن للمرأة أن تلي عقد النكاح كما هو مذهب الحنفية، وكذلك أيضاً أن تكون ولياً.

دليل التحريم ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب)، وهذا الحديث اتفق الشيخان على صحته وثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله: (لا ينكح المحرم) لم يفرق بين محرم لحج أو عمرة (ولا يُنكح) أي: إذا كان امرأة، وهذا يدل على أنه لا يجوز له أن يكون في عقد النكاح لا زوجاً -وهو الأصيل- ولا وكيلاً، فلا يجوز للمحرم أن يكون وكيلاً في عقد النكاح بأن يقبل النكاح من غيره، أو يوجبه للغير.

وهذه المسألة للعلماء فيها قولان:

القول الأول يقول: لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا أن ينكح ولا أن يخطب، وهذا هو مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية رحمة الله على الجميع، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على المحرم عقد النكاح سواء كان زوجاً أو زوجة أو ولياً أو وكيلاً، وذلك هو نص الحديث الثابت عنه والذي ذكرناه.

القول الثاني: ذهب فقهاء الحنفية رحمهم الله إلى القول بجواز أن ينكح المحرم وأن يُنكح، وأن يخطب، لكن بعضهم ينص على جوازه مع الكراهة، أي: أنه يكره له ذلك، ولكن يجوز، والعقد صحيح، واحتج هؤلاء العلماء بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة وهو محرم) ، فأثبت أن الزواج من رسول الله صلى الله عليه وسلم لـميمونة وقع وهو محرم، قالوا: فدل دلالة واضحة على أنه يجوز للمحرم أن يتزوج وأن يزوج الغير وأن يخطب، وأما ما ورد من النهي عن النبي صلى عليه وسلم فإن فعله صلوات الله وسلامه عليه يصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، وهذا مسلك يعمل به جماهير السلف والخلف رحمة الله عليهم: وهو أنه إذا ورد النهي وجاء ما يدل على الجواز صرف ظاهر النهي من التحريم إلى الكراهة.

والذي يترجح بنظري والعلم عند الله: هو القول بالتحريم، وهو مذهب جمهور السلف كما ذكرنا؛ وذلك لما يلي:

أولاً: لصحة دلالة السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحريم.

ثانياً: أنه يجاب عن حديث ابن عباس من وجوه:

الوجه الأول: أن القاعدة: إذا تعارضت رواية أكابر الصحابة مع رواية أصاغر الصحابة قدمت رواية أكابر الصحابة على الأصاغر؛ والسبب في هذا واضح، وهو أن أصاغر الصحابة في الغالب يروون بواسطة، وأكابر الصحابة في الغالب يروون مباشرة، فتقدم رواية الأكابر؛ لقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمهم بحاله أكثر من أصاغر الصحابة.

الوجه الثاني: أن حديث ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم) عارضته ميمونة صاحبة القصة، وعارضه أبو رافع السفير بين النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة ، ومن المعلوم أن ميمونة رضي الله عنها -وهي خالة ابن عباس - أعلم بحال النبي صلى الله عليه سلم حينما تزوجها، فلما أثبتت أنه تزوجها وهو حلال، دل هذا على ضعف ما ذكره ابن عباس ، ومن هنا قال الإمام أحمد : إن هذا الحديث خطأ، وهذا الخطأ قد يكون من الرواة أو يكون من سماع ابن عباس عن غيره من الصحابة رضوان الله عليهم.

وهناك وجه ثالث في الترجيح: أن حديث ابن عباس رضي الله عنهما له معارض، وحديث التحريم صريح في التحريم لم ترد له صيغة معارضة، وإذا تعارض النصان أحدهما له وجه معارض، والآخر لا معارض له قدم الذي لا معارض له؛ لأن له مزية، وأنت إذا تأملت أحاديث النهي لم تجد ما يعارضها في الروايات نفسها، ولكن إذا تأملت حديث ابن عباس الذي يدل على الإباحة تجد أنه قد عارضه أبو رافع وعارضته ميمونة فلم يتمحض حديث ابن عباس في القوة في الدلالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حلالاً.

الوجه الرابع في الترجيح: أن القاعدة أنه إذا تعارض الحاظر والمبيح أنه يقدم النص الحاظر على النص المبيح؛ لما فيه من زيادة العلم، ولما فيه من زيادة الاحتياط، وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتقديم نهيه على أمره، فكيف بتقديم نهيه على ما يكون من حاله محتملاً الخصوصية، فهذا من باب أولى وأحرى، ولذلك قال: (إذا نهيتكم فانتهوا)، وقال في الأمر: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ، فهذا يدل على قوة أدلة التحريم ورجحانها على أدلة الجواز.

الوجه الخامس: أن حديث ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم) يحتمل أن يكون خاصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصيات حتى في النكاح، ولذلك قال سبحانه: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب:50]، فالله خصه بخصائص كما نص على ذلك كتاب الله عز وجل: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41] .

فلما خاطب عليه الصلاة والسلام عموم الأمة بقوله: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب) دل على أننا مطالبون بامتثال هذا النهي، ولما فعل هو عليه الصلاة والسلام -على القول بأنه تزوجها وهو محرم- فإننا نقول: هذا خاص به؛ لأن القاعدة: إذا تعارضت دلالة القول مع دلالة الفعل احتملت دلالة الفعل الخصوصية، فتقدم دلالة القول؛ لأنها تشريع للأمة.

الوجه السادس: أن قول ابن عباس: (تزوج ميمونة وهو محرم) كما أنه ضعيف من جهة السند فلا يقوى على معارضة النص الصحيح الصريح فإننا نقول: هو في لفظه محتمل؛ وذلك أن قول ابن عباس: (تزوج ميمونة وهو محرم) يحتمل أن يكون مراده: (وهو محرم) أنه عقد عليها داخل حدود الحرم، وهذا له مغزىً دقيق، وهو من فقه ابن عباس، كأنه يريد أن ينبه على مسألة فقهية من مسائل الهجرة، وذلك أن من هاجر من بلد فإنه لا يرجع إليه إذا تركه لله ورسوله، ولذلك ثبت في النص الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لكن البائس سعد بن خولة ) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.

ولذلك قال العلماء: من خرج من بلد كفر مهاجراً عنها فإنه لا يرجع إليها، ولذلك لم يرجع المهاجرون إلى مكة إلا بقدر الحاجة، وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لهم في الإقامة فيها ثلاثة أيام فقط، فدل على أنه لا يجوز لمن هاجر من بلد أن يقيم فيها بعد هجرته؛ لأنه تركها لله عز وجل، ولو عادت بلد إسلام بعد ذلك، وإذا ثبت هذا ورد سؤال هو: هل يجوز له أن يتزوج من أهل هذا البلد؟ وهل زواجه من أهل هذا البلد وعقده فيه يعتبر بمثابة الإقامة؟ فرد ابن عباس رضي الله عنهما هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، أي: داخل حدود الحرم، والعرب تسمي من كان داخل الحدود محرماً، ومنه قول حسان بن ثابت يرثي عثمان بن عفان رضي الله عن الجميع:

قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً

ومن المعلوم أن عثمان إنما قتل في حرم المدينة ولم يقتل وهو محرم بالحج أو بالعمرة، فدل على أن من كان داخل حدود حرم مكة أو حرم المدينة فإنه يوصف بكونه محرماً.

فالعرب تسمي من دخل في الزمان الحرام -كالأشهر الحرم- أو دخل في المكان الذي له حرمة، تسميته محرماً، وعلى هذا يكون حديث ابن عباس له مغزىً خارج عن مسألتنا، أي: أنه لا يدل على أنه تزوجها حال إحرامه صلوات الله وسلامه عليه.

وبناء عليه يترجح مذهب الجمهور الذين يقولون بأنه لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا أن يُنكح ولا أن يخطب، وهذا الحكم يستوي فيه أن يكون المحرم أصيلاً عن نفسه، كأن يتزوج لنفسه، أو وكيلاً عن غيره، كأن يقول له رجل: اذهب واخطب لي فلانة، وأنت وكيلٌ عني، فإن الوكيل ينزل منزلة الأصيل، وعلى هذا فإنه يستوي أن يكون وكيلاً عن محلّ أو وكيلاً عن محرم، ويستوي في ذلك أن يكون الوكيل ذاته وكيلاً عن إنسان محرم، أو يكون في حال إحرامه كما ذكرنا.

قال رحمه الله: [ويحرم عقد نكاح، ولا يصح، ولا فدية].

أي أنه لو وقع الإيجاب والقبول من المحرم زوجاً أو ولياً فإنه لا يصح، وهذا مذهب طائفة من العلماء، ويركبونه من أن النهي هنا استغرق زماناً لا يصح فيه الإيجاب والقبول، كأن الشرع جعل هذا مدة، إحرام الإنسان إلى أن يتحلل غير صالحة للإيجاب والقبول، فإذا وقع الإيجاب والقبول لم يقع معتداً به شرعاً، وحينئذٍ يكون من اللغو، فوجوده وعدمه على حد سواء، لكن لو عقد وهو محرم وتزوج المرأة ودخل بها وجاء له منها أولاد، فإن هذا يعتبر نكاح شبهة إذا كان يظن أن هذا جائز، ولكن لا يوجب حرمة نسله؛ لأن نكاح الشبهة كما هو معلوم تسري عليه أحكام النكاح الصحيح، ولكن يفسخ ثم يطالب بتجديده بعد ذلك.

قوله: [ولا فدية].

أي: أن هذا المحظور ليست فيه فدية، فلو أن رجلاً سألك وقال: عقدت نكاحاً وأنا محرم بحج أو عمرة، فما الحكم؟ تقول له: إن النكاح لا يصح ولا فدية عليك، وإنما عليه الندم والاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3707 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3623 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3445 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3378 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3345 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3322 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3277 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3232 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3187 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3172 استماع