شرح زاد المستقنع باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

يقول المؤلف عليه رحمة الله: [أو استقاء أو استمنى، أو باشر فأمنى أو أمذى، أو كرر النظر فأنزل، أو حجم أو احتجم وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد].

القيء عمداً مفسد للصوم

لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا ما يوجب فساد صوم الصائم، فقال رحمه الله: (أو استقاء) وقد تقدم أن طلب القيء يعتبر موجباً لفساد الصوم، والأصل في ذلك ما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استقاء فقاء فليقض) فقد دل هذا الحديث على أن الصوم يفسد بالقيء، وهناك فرق بين من استقاء وبين من ذرعه القيء؛ فالإنسان له حالتان:

الحالة الأولى: أن يستدعي القيء، وذلك بإدخال إصبع أو نحو ذلك من الأفعال التي تحركه فيقيء ما في بطنه، فإذا استقاء بمعنى أنه تعاطى الأسباب التي يستدعي بها القيء فإنه حينئذٍ يعتبر مفطراً، وعليه قضاء ذلك اليوم.

أما الحالة الثانية: بالنسبة لمن ذرعه القيء وغلبه، سواء سمع ما يكره أو رأى ما يوجب اشمئزازه ونفرته فذرعه القيء فقاء؛ فكل هؤلاء يعتبرون في حكم المعذورين، ولذلك لا يجب عليهم قضاء، وحكي الإجماع على هذه المسألة -أعني مسألة القيء- فقالوا بالتفريق بين من ذرعه القيء وغلبه، وبين من تعاطى أسباب القيء، فإذا تعاطى وجب عليه القضاء، وإذا غلبه القيء لا قضاء عليه.

الاستمناء من مفسدات الصيام

[أو استمنى].

الاستمناء: أن يطلب خروج المني، وهو على وزن (استفعال)، والمراد بذلك أن يحرك شهوته إما بيد أو بتحكك على أرض أو على جدار أو نحو ذلك، كل ذلك يعتبر استمناءً، وكانت العرب في الجاهلية تسميه (جلد عميرة) يكنون به عن استخراج المني، ومنه قول الشاعر:

إِذَا حَلَلْتَ بِوَادٍ لا أَنِيسَ بِهِ فَاجْلِدْ عُمَيْرَةَ لا عَيْبٌ ولا حَرَجُ

فجاء الإسلام بتحريم هذه العادة المشينة القبيحة، فقد قال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:5-7] فبين سبحانه أن من طلب شهوته، وكان طلبه خارجاً عما أحل الله من الزوجة والسّرية؛ فإنه يعتبر متعدياً لحدود الله عز وجل.

وهذا القول قال به أئمة من السلف وفسروا به الآية، وقالوا: إنها تدل على تحريم الاستمناء، وقد وردت أحاديث في تحريم هذه العادة؛ حتى إن بعض العلماء جمع طرقها وقال: إنها يقوي بعضها بعضاً، بحيث تدل على أن للحديث أصلاً في التحريم.

والشاهد من هذه المسألة: أن من حرك شهوته بنفسه أو عن طريق زوجته: فاستمنى بها بمفاخذة أو نحو ذلك؛ فإنه يجب عليه قضاء ذلك اليوم إذا خرج منه المني.

والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث القدسي عن الله تعالى في حق الصائم: (يدع طعامه وشرابه وشهوته) فلما قال: (وشهوته) أطلق، فشمل الشهوة الكبرى سواءً كانت عن طريق الجماع أو كانت عن طريق الاستمناء، فإذا أنزل المني فقد حصلت شهوته، وهي شهوة كبرى، وبناءً على ذلك يعتبر غير صائم؛ لأن الصائم يدع هذه الشهوة، ومن استمنى لم يدع هذه الشهوة.

وبناءً عليه: فإن الاستمناء يعتبر من موجبات الفطر.

وشذّ الظاهرية رحمة الله عليهم فقال بعض فقهائهم: إن الاستمناء ليس بحرام، ولا يوجب الفطر.

ولا شك أن النصوص التي قدمنا تدل على حرمته، إضافة إلى ما ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) فلو كان الاستمناء جائزاً لقال: فعليه بالاستمناء، فدلت هذه النصوص من الكتاب والسُّنة على تحريم الاستمناء، ودل حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه -وهو ثابت في الصحيح- وفيه: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي..) على أن من استمنى أنه يعتبر مفطراً.

وعلى هذا: فإنه يستوي أن يستمني بنفسه أو يستمني بواسطة الغير، فكل ما استدعى به خروج منيه يعتبر موجباً لفطره إذا خرج ذلك المني.

والعبرة في المسألة بخروج المني، فلو استمنى ولم يخرج مني أو حرك شهوته ولم يخرج المني فإن الشهوة لم تقع على الصورة الكاملة، فلا ينتقض صومه ولا يلزمه قضاء، ولكنه يعتبر ناقص الأجر بمثل هذا كما ذكر ذلك بعض العلماء رحمة الله عليهم.

المباشرة المسببة لنزول المني أو المذي مفسدة للصوم

[أو باشر فأمنى أو أمذى].

أو باشر امرأته فأمنى أو أمذى، والمباشرة (مفاعلة) من البشرة، والمراد بها: أن تلي بشرته بشرة المرأة فتتحرك شهوته فينـزل، وهذا يكون فيه المضاجعة التي لا جماع فيها، فإذا باشر امرأته فكأنه تعاطى السبب للفطر كما لو استقاء أو استمنى، ولذلك إذا أنزل المني سواءً بمباشرة أو استمناء فإنه يعتبر مفطراً.

والدليل على كونه إذا باشر فأنزل أنه يعتبر مفطراً ما تقدم من حديث الشهوة، حيث دلت هذه السُّنة الصحيحة على أن الصائم لا يقضي شهوته بإنزال المني ولا بالجماع، فإذا باشر زوجته وأنزل منيه فإنه حينئذٍ يعتبر مفطراً ويلزمه القضاء.

لكن قوله: (أمذى) المذي: هي القطرات القليلة اللزجة التي تخرج عند بداية الشهوة، بخلاف المني الذي يخرج دفقاً عند الشهوة واللذة الكبرى، فإذا حصل المني أفطر لقول جماهير العلماء كما ذكرنا، أما لو باشر زوجته فخرج منه المذي قطرة أو قطرات فإنه يعتبر مفطراً في قول الحنابلة والمالكية.

وذهب الحنفية والشافعية إلى أنه غير مفطر، والصحيح: أن من باشر أو نظر إلى شيء فأمذى أن المذي لا يوجب الفطر؛ لأن المذي ليس كمال الشهوة، وبذلك لا ينتقض صومه.

الإنزال بسبب تكرار النظر يفسد الصوم

[أو كرر النظر فأنزل].

أو كرر النظر إلى ما يُشتهى فأنزل؛ لماذا قال: (كرر)؟

التكرار يحصل بالمرة الثانية؛ وذلك لأن النظر في المرة الأولى عفي عنه؛ لأنه ومما يشق التحرز عنه، فلو نظر إلى زوجته فأعجبته وبمجرد نظره إليها أنزل قالوا: إن هذا ليس بيده، وغالباً يكون مثل من ذرعه القيء؛ فاغتفروه، وأما إذا كرر النظر وتابع النظرة بعد النظرة فإنه يحرك شهوته كما يحركها المباشر والمستمني، فإن حصل إنزال على هذا الوجه فإنه يجب عليه القضاء.

الحجامة من مفسدات الصيام

[أو حجم أو احتجم وظهر دم].

أو حجم غيره أو احتجم لنفسه، فهناك حاجم وهناك محجوم، والحجامة تكون بمص الدم، وهي من الجراحات القديمة، وقد ثبتت في السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنها من الأدوية، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن كان في شيء مما تتعالجون به شفاء ففي شرطة من محجم، أو آية من كتاب الله، أو شربة من عسل، أو كية من نار، ولا أحب أن أكتوي) .

فالحجامة من أنواع العلاج، ولا تزال إلى يومنا هذا، وتسمى من تخصصات الجراحة العامة في عصرنا الحاضر، وقد أقرتها الشريعة وحمدت العلاج بها، وهي تقوم على مص جزء من الدم من الجسم، ويختلف العلاج بها فتكون في الرأس، وتكون في الظهر، وتكون في أسافل البدن، وتحجم المواضع على حسب الأمراض والأدواء، فلكل داء ومرض مكان معين، ولربما لو تحرك عنه أو عدل عنه جاء بداءٍ أعظم من المرض الذي يريد أن يعالج من أجله، ففي الرأس مواضع لو حُجمت شفي الإنسان من ثقل النوم ومن أمراض الصداع، وفيه مواضع لو حُجمت أصابه النسيان، ولربما ذهبت ذاكرته، ولذلك هي تعتبر من أنواع العلاج لكن بشرط: ألا يحتجم الإنسان إلا عند إنسان يعرفها، فهي خطيرة، فكما أنها تأتي بالنفع فقد تأتي بالضرر.

وهذه الحجامة تعتبر محل خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، هل إذا احتجم الإنسان أو حجم غيره يعتبر مفطراً أو لا؟

ففي ذلك سنن وآثار مختلفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء في حديث أحمد وأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفطر الحاجم والمحجوم) وهذا الحديث رواه بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أوصلهم الإمام الحافظ الزيلعي رحمة الله عليه إلى ثمانية عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم روى عنه هذا الحديث.

إلا أن أكثر هذه الأحاديث ضعيف ولا يقوى سنده؛ ولكن هناك أحاديث حكم بتحسينها، وجزم بعض العلماء والحفاظ بتصحيحها، فقد صححها الإمام أحمد رحمة الله عليه، والإمام البخاري يحكى عنه تصحيح حديث الحجامة في الفطر، وغيرهما من الأئمة رحمة الله على الجميع، والعمل على ثبوت قوله عليه الصلاة والسلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) قالوا: فقوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) يدل على أن من حجم أو احتجم يعتبر مفطراً.

ووجه ذلك: أن الحاجم -وهو الشخص الذي يقوم بالحجامة- ولأن الحجامة تحتاج إلى مص الدم -فيُشرَّط الموضع ثم يُمص الدم الفاسد- فلا يأمن من أن يمص شيئاً من ذلك الدم.

وأما المحجوم: فلأن الحجامة تضعف بدنه وتنهك قوته، ولذلك قالوا: إنه يعتبر مفطراً، ويستوي الحكم في الحاجم والمحجوم.

وذهب جمهور العلماء رحمة الله عليهم -وهو قول طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كـأنس وغيره- أن هذا الحديث منسوخ، ومنهم من يقول: إن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) يُخرج على غير الفطر الحقيقي.

واختلفوا في ذلك، فقالت طائفة: إن هذا الحديث ورد في سبب مخصوص، وذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بالبقيع -كما في بعض الروايات- على حاجم ومحجوم وسمعهما يغتابان الناس وهما صائمان، فقال عليه الصلاة والسلام: أفطر الحاجم والمحجوم) أي: أنهما بغيبتهما للناس قد أذهبا أجر صيامهما، فكأنهما أفطرا.

والعرب تقول: أفطر، وتقول: أصبح، وتقول: أمسى، وهو لم يمس ولم يفطر ولم يصبح حقيقة؛ وإنما المراد: أنه تعاطى شيئاً يفوّت المقصود كما في حـال الصائم هنا: لما تعاطى الغيبة كأنه ذهبت حسناته فكأنه لم يصم أصلاً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) هذا الوجه الأول.

والوجه الثاني -وهو أقوى الوجوه-: أن قوله عليه الصلاة والسلام: (أفطر الحاجم والمحجوم) المراد به أنهما أوشكا على الفطر، كما تقول: أصبحتَ أصبحتَ. أي: ويحك كدت أن تصبح. كما في حديث ابن أم مكتوم (وكان لا يؤذن إلا إذا قيل له: أصبحتَ أصبحتَ) .

وهذا موجود في لغة العرب إلى يومنا هذا، فإنك تقول للرجل: هلكتَ..هلكتَ! وأنت لا تقصد أنه هلك حقيقة، كأن يكون قريباً من نار أو قريباً من بلاء، فتقول لـه: احترقتَ..احترقتَ! وهو لم يحترق حقيقة؛ وإنما المراد أنه في موضع يعرضه للاحتراق.

قالوا: فقوله: (أفطر الحاجم والمحجوم) أي: أن الحاجم لا يأمن من دخول شيء من الدم إلى جوفه، والمحجوم لا يأمن من الضعف الذي يفضي به إلى الفطر، وهذا نسميه تأويل الحديث بما يدل عليه الحال، فإن الحال يدل دلالةً واضحةً على أنه سينهك بدن المحجوم، ولا يأمن الحاجم من ازدراد الدم، ولذلك لا تستطيع أن تقول: إن الحاجم أفطر حقيقة؛ لأن المفطر حقيقة يأكل أو يشرب أو يتعاطى شهوة توجب فطره، فلما كان الحاجم والمحجوم لا يأكلان ولا يشربان، وإنما فيهما معنىً يفضي بهما إلى الضعف الذي ينتهي إلى الفطر قَوِيَ حمل الحديث على هذا الوجه.

وهناك وجه ثالث -وهو من أقوى الأوجه، واختاره جمع من الأئمة رحمة الله عليهم كما أشار إليه الإمام ابن حزم الظاهري وغيره- وهو: أن حديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) كان في أول الإسلام ثم نسخ، وقد جاء ذلك صريحاً في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك قال: (إنما كان رخصة) وكذلك مثله حديث أبي سعيد الخدري قال: ( ثم رُخص في الحجامة ) قالوا: فقوله: (ثم رخص في الحجامة) يدل على أن الأمر كان في الأول عزيمة ثم خفف فيه، وهذا هو القول الأقوى والأوجه في هذه المسألة.

إضافة إلى أنه ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم) وابن عباس من صغار الصحابة، ولذلك قالوا: إنه يقوى أن يكون حديث الناسخ متأخراً عن المنسوخ، وهو حديث الرخصة الذي ذكرناه عن أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما.

وعلى هذا الوجه: فإن الحجامة كانت في أول الأمر موجبة لفطر الحاجم والمحجوم، ثم نسخ ذلك وأصبحت رخصة، كما قال أنس : (ثم رخص بَعْدُ في الحجامة) وعليه: فإنه إذا احتجم الإنسان أو حجم غيره فإنه لا يعتبر مفطراً.

لكن على القول بأن الحجامة تفطر فقالوا: لا تكون مفطرة إلا إذا مص الدم - أعني الحاجم - فلو أنه فصده، بمعنى قطع منه العرق وجرى الدم، والفرق بين الحجامة والفصد: أن الحجامة تكون لأوعية الدم، فتمتص ما هناك من الدم الفاسد، وأما بالنسبة للفصد فإنه يكون للعروق، فالفصد لايعتبر موجباً لفطر الفاصد؛ لأنه لا يمص؛ ولكن هل يكون مؤثراً في صيام المفصود؟

قال بعض العلماء: الفصد يلتحق بالحجامة من جهة أنه ينهك بدن المفصود، بل قد يكون الفصد أقوى وأبلغ في التأثير على الجسم من الحجامة؛ لأنه يتصل بالعروق، وجريان الدم في العروق أشد من جريانه في الأوعية، وتضرر الإنسان بالفصد أعظم من تضرره بالحجامة.

وعلى القول بأن الفصد يوجب الفطر فإن من تبرع بدمه يدخل في هذا؛ لأن الفصد إخراج للدم من العرق، والتبرع بالدم إخراج للدم من العروق.

وعلى هذا فإنهم يقولون: إذا خرج منه الدم على هذا الوجه فإنه يعتبر مفطراً؛ لكن لو خرج الدم بغير اختياره كرعاف ونزيف من جرح ونحو ذلك قالوا: لا يعتبر مفطراً؛ لأنه هناك أدخل الضرر على نفسه، بخلاف ما إذا غلبه الرعاف أو طعن أو جرح؛ فإنه لا يعتبر مفطراً.

[وظهر دم عامداً ذاكراً لصومه فسد].

يشترط في الحجامة -كما قلنا-: أن يظهر الدم، ومفهوم قوله: (وظهر دم) أنه إذا لم يظهر الدم فإنه لا يعتبر مفطراً.

ومثال ذلك: لو أنه شرطه وأذن المغرب فخرج الدم بعد أذان المغرب فإنه لا يعتبر مفطراً؛ لأن خروج الدم الذي ينبني عليه الحكم بالفطر إنما وقع بعد الأذان، وعليه: فإنه لا يعتبر مفطراً من هذا الوجه.

وأما لو شرطه وخرج الدم قبل الأذان ولو بلحظة فإنه يعتبر مفطراً على هذا القول.

[عامداً ذاكراً لصومه فسد].

(عامداً): أي متعمداً للحجامة، فلو أكره عليها لم يؤثر.

(ذاكراً لصومه): فلو كان ناسياً لم يؤثر، وقد قلنا إن الصحيح في هذا كله: أن الحجامة لا توجب الفطر.

[عامداً ذاكراً لصومه لا ناسياً أو مكرهاً].

(لا ناسياً) أي: لا إن كان ناسياً؛ لأن النبي قال: (من أكل أو شرب في نهار رمضان وهو ناس فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه) فإذا كان الأكل والشرب مع النسيان لا يوجب الفطر، فكذلك الحجامة مع النسيان لا توجب الفطر.

وقوله (لا ناسياً أو مكرهاً) المكره: ضد المختار وهو الذي يأتي الشيء بغير اختياره، والإكراه له شروط، فـإذا تحققت شروط الإكراه المعتبرة شرعاً فإنه يسقط عنه التكليف في قول جماعة من أهل العلم رحمة الله عليهم، وأصول الشريعة دالة على ذلك، فقد قال تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] فأسقط الله المؤاخذة بالردة، وهي كلمة الكفر إذا كان الإنسان مكرهاً عليها؛ فمن باب أولى فروع الشريعة، فإذا كان الإكراه لا يوجب الكفر فمن باب أولى أن لا يوجب الفطر ولا غيره من الإخلالات.

لا زال المصنف رحمه الله يبين لنا ما يوجب فساد صوم الصائم، فقال رحمه الله: (أو استقاء) وقد تقدم أن طلب القيء يعتبر موجباً لفساد الصوم، والأصل في ذلك ما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من استقاء فقاء فليقض) فقد دل هذا الحديث على أن الصوم يفسد بالقيء، وهناك فرق بين من استقاء وبين من ذرعه القيء؛ فالإنسان له حالتان:

الحالة الأولى: أن يستدعي القيء، وذلك بإدخال إصبع أو نحو ذلك من الأفعال التي تحركه فيقيء ما في بطنه، فإذا استقاء بمعنى أنه تعاطى الأسباب التي يستدعي بها القيء فإنه حينئذٍ يعتبر مفطراً، وعليه قضاء ذلك اليوم.

أما الحالة الثانية: بالنسبة لمن ذرعه القيء وغلبه، سواء سمع ما يكره أو رأى ما يوجب اشمئزازه ونفرته فذرعه القيء فقاء؛ فكل هؤلاء يعتبرون في حكم المعذورين، ولذلك لا يجب عليهم قضاء، وحكي الإجماع على هذه المسألة -أعني مسألة القيء- فقالوا بالتفريق بين من ذرعه القيء وغلبه، وبين من تعاطى أسباب القيء، فإذا تعاطى وجب عليه القضاء، وإذا غلبه القيء لا قضاء عليه.

[أو استمنى].

الاستمناء: أن يطلب خروج المني، وهو على وزن (استفعال)، والمراد بذلك أن يحرك شهوته إما بيد أو بتحكك على أرض أو على جدار أو نحو ذلك، كل ذلك يعتبر استمناءً، وكانت العرب في الجاهلية تسميه (جلد عميرة) يكنون به عن استخراج المني، ومنه قول الشاعر:

إِذَا حَلَلْتَ بِوَادٍ لا أَنِيسَ بِهِ فَاجْلِدْ عُمَيْرَةَ لا عَيْبٌ ولا حَرَجُ

فجاء الإسلام بتحريم هذه العادة المشينة القبيحة، فقد قال سبحانه وتعالى: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [المؤمنون:5-7] فبين سبحانه أن من طلب شهوته، وكان طلبه خارجاً عما أحل الله من الزوجة والسّرية؛ فإنه يعتبر متعدياً لحدود الله عز وجل.

وهذا القول قال به أئمة من السلف وفسروا به الآية، وقالوا: إنها تدل على تحريم الاستمناء، وقد وردت أحاديث في تحريم هذه العادة؛ حتى إن بعض العلماء جمع طرقها وقال: إنها يقوي بعضها بعضاً، بحيث تدل على أن للحديث أصلاً في التحريم.

والشاهد من هذه المسألة: أن من حرك شهوته بنفسه أو عن طريق زوجته: فاستمنى بها بمفاخذة أو نحو ذلك؛ فإنه يجب عليه قضاء ذلك اليوم إذا خرج منه المني.

والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث القدسي عن الله تعالى في حق الصائم: (يدع طعامه وشرابه وشهوته) فلما قال: (وشهوته) أطلق، فشمل الشهوة الكبرى سواءً كانت عن طريق الجماع أو كانت عن طريق الاستمناء، فإذا أنزل المني فقد حصلت شهوته، وهي شهوة كبرى، وبناءً على ذلك يعتبر غير صائم؛ لأن الصائم يدع هذه الشهوة، ومن استمنى لم يدع هذه الشهوة.

وبناءً عليه: فإن الاستمناء يعتبر من موجبات الفطر.

وشذّ الظاهرية رحمة الله عليهم فقال بعض فقهائهم: إن الاستمناء ليس بحرام، ولا يوجب الفطر.

ولا شك أن النصوص التي قدمنا تدل على حرمته، إضافة إلى ما ثبت في الصحيحين من قوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم) فلو كان الاستمناء جائزاً لقال: فعليه بالاستمناء، فدلت هذه النصوص من الكتاب والسُّنة على تحريم الاستمناء، ودل حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه -وهو ثابت في الصحيح- وفيه: (يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي..) على أن من استمنى أنه يعتبر مفطراً.

وعلى هذا: فإنه يستوي أن يستمني بنفسه أو يستمني بواسطة الغير، فكل ما استدعى به خروج منيه يعتبر موجباً لفطره إذا خرج ذلك المني.

والعبرة في المسألة بخروج المني، فلو استمنى ولم يخرج مني أو حرك شهوته ولم يخرج المني فإن الشهوة لم تقع على الصورة الكاملة، فلا ينتقض صومه ولا يلزمه قضاء، ولكنه يعتبر ناقص الأجر بمثل هذا كما ذكر ذلك بعض العلماء رحمة الله عليهم.

[أو باشر فأمنى أو أمذى].

أو باشر امرأته فأمنى أو أمذى، والمباشرة (مفاعلة) من البشرة، والمراد بها: أن تلي بشرته بشرة المرأة فتتحرك شهوته فينـزل، وهذا يكون فيه المضاجعة التي لا جماع فيها، فإذا باشر امرأته فكأنه تعاطى السبب للفطر كما لو استقاء أو استمنى، ولذلك إذا أنزل المني سواءً بمباشرة أو استمناء فإنه يعتبر مفطراً.

والدليل على كونه إذا باشر فأنزل أنه يعتبر مفطراً ما تقدم من حديث الشهوة، حيث دلت هذه السُّنة الصحيحة على أن الصائم لا يقضي شهوته بإنزال المني ولا بالجماع، فإذا باشر زوجته وأنزل منيه فإنه حينئذٍ يعتبر مفطراً ويلزمه القضاء.

لكن قوله: (أمذى) المذي: هي القطرات القليلة اللزجة التي تخرج عند بداية الشهوة، بخلاف المني الذي يخرج دفقاً عند الشهوة واللذة الكبرى، فإذا حصل المني أفطر لقول جماهير العلماء كما ذكرنا، أما لو باشر زوجته فخرج منه المذي قطرة أو قطرات فإنه يعتبر مفطراً في قول الحنابلة والمالكية.

وذهب الحنفية والشافعية إلى أنه غير مفطر، والصحيح: أن من باشر أو نظر إلى شيء فأمذى أن المذي لا يوجب الفطر؛ لأن المذي ليس كمال الشهوة، وبذلك لا ينتقض صومه.

[أو كرر النظر فأنزل].

أو كرر النظر إلى ما يُشتهى فأنزل؛ لماذا قال: (كرر)؟

التكرار يحصل بالمرة الثانية؛ وذلك لأن النظر في المرة الأولى عفي عنه؛ لأنه ومما يشق التحرز عنه، فلو نظر إلى زوجته فأعجبته وبمجرد نظره إليها أنزل قالوا: إن هذا ليس بيده، وغالباً يكون مثل من ذرعه القيء؛ فاغتفروه، وأما إذا كرر النظر وتابع النظرة بعد النظرة فإنه يحرك شهوته كما يحركها المباشر والمستمني، فإن حصل إنزال على هذا الوجه فإنه يجب عليه القضاء.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3704 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3620 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3441 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3374 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3339 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3320 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3273 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3228 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3185 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3169 استماع