شرح زاد المستقنع فصل: الأولى بالإمامة [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ولا تصح خلف فاسق ككافر، ولا امرأة وخنثى للرجال، ولا صبي لبالغ].

ما زال المصنف رحمه الله يبين لنا الأمور التي تؤثر في الإمامة، فبين رحمه الله من لا تصح إمامته، وذكرنا عدم صحة إمامة الكافر بالمسلمين وبينا وجه ذلك، ثم تعرض رحمه الله لإمامة الفاسق، وبينا أن مذهب الحنابلة رحمة الله عليهم وجمهور أهل العلم على أن الصلاة خلف الفاسق صحيحة؛ لثبوت الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)، أي: لكم صلاتكم كاملة وعليهم خطؤهم.

وقال العلماء: إن الفاسق تجزئه في حق نفسه، ولذلك تصح إمامته لغيره. وبينا أن السلف الصالح رحمة الله عليهم كانوا يصلون خلف الفساق وما كانوا يبطلون الصلاة، كما هو فعل أنس بن مالك وعبد الله بن عمر رضي الله عن الجميع.

ثم بعد ذلك ذكرنا إمامة المرأة للرجال، وقلنا: لا تصح إمامة المرأة للرجال، وأما إمامتها للنساء فللعلماء فيها قولان. وأما الدليل على أن المرأة لا تؤم الرجال: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قومٌ ولوا أمرهم امرأة)، فالنساء جبلن على الضعف الذي هو كمال لهن في أمورهن الخاصة، وجعل الله هذا الضعف رفقاً بهن وبغيرهن، وفيه خيرٌ لهن ولغيرهن، ثم جعل في الرجل ما لم يجعله للمرأة من إمامة الرجال لافتتان الرجال بها وافتتانها بهم، ولذلك يضيع المقصود من الإمامة والصلاة من قصد القربة إلى الله عز وجل، وبناءً على ذلك لا تصح إمامة المرأة للرجال، وشذ داود والطبري رحمة الله عليهما، فقالا بصحة إمامة المرأة للرجال، وذلك لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله). وهذا القول ضعيف لمعارضته للسنة الصحيحة التي دلت على عدم ولاية المرأة، والإمامة ولاية، والصلاة كذلك من أعظم الأمور، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة).

وأما بالنسبة لاحتجاجهم بعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) فمحل نظر؛ لأن لفظ (القوم) يطلق بمعنى الرجال، كما في قوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ [الحجرات:11]، فقيل: إن القوم يطلق ويراد به الرجال خاصة، بدليل عطف النساء عليه بعد ذلك بقوله تعالى: (وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ)، فلم تجتزئ الآية بذكر القوم حتى خصصت ذكر النساء، فدل على أن القوم يطلق ويراد به الرجال. وأيضاً قول الشاعر:

فما أدري ولست إخال أدري أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ؟

فقوله: أقومٌ آلُ حِصْنٍ أم نِساءُ؟ أي: هل هم رجال أم نساء؟ فدل على إطلاق القوم وإرادة الرجال وحدهم، وهذا هو لسان العرب الذي نطق به القرآن، وكذلك نطقت به السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وبناءً على ذلك لا تؤم المرأة الرجال، ولكن يرد السؤال: هل المرأة تؤم النساء؟

في هذه المسألة قولان: فقالت الحنابلة والشافعية رحمة الله عليهم: إن المرأة تؤم النساء. واحتجوا بحديث أبي داود في سننه وعند أحمد في مسنده: (أن أم ورقة استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكانت امرأة صالحة- أن تؤم أهل دارها، فأذن لها -عليه الصلاة والسلام- بذلك)، وكان يؤذن لها رجلٌ أعمى كفيف البصر، قال الراوي: فلقد رأيته قد سقط حاجباه فكان يؤذن لها، ثم تؤم أهل دارها، فدل على أنها تؤم النساء مثلها.

وقالت الحنفية والمالكية رحمة الله عليهم: إن المرأة لا تؤم النساء. وهذا قولٌ ضعيف، وقد احتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام: (آخروهن حيث أخرهن الله)، وهو حديث ضعيف. وقوله عليه الصلاة والسلام: (خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها)، فقالوا: إن الإمامة تكون فضلاً، ولكن على هذا الوجه تكون بخلافه فتعارض مقصود الشرع من تأخير النساء. والصحيح جواز إمامة المرأة للنساء، وبناءً على ذلك فلا حرج أن تصلي المرأة بمثلها من النساء.

ثم قال رحمه الله: [ولا صبي لبالغ].

أي: لا تصح إمامة الصبي للبالغ. والصبي لا يخلو من حالتين:

الحالة الأولى: أن يكون غير مميز، وهو الصبي الطائش الذي لا يضبط أمور الصلاة ولا يعيها ولا يعقلها، فهذا لا يؤم البالغين بالإجماع.

والحالة الثانية: أن يكون الصبي يميز، والمميز للعلماء فيه ضابطان: فمنهم من يضبطه بالسن فيقول: هو الذي بلغ سبع سنين، وهو المميز، فمن كان دون سبع سنين فليس بمميز. واحتجوا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع)، فدل هذا الحديث على أن سن السبع هو سن التمييز، وأن الصبي يؤمر بالصلاة لسبع، وما دون سبع لا يؤمر لها، فدلنا على أن السبع فاصل بين التمييز وعدمه.

وهناك قولٌ ثانٍ ضبط الصبي المميز بضابط الحال، فقالوا: الصبي المميز هو الذي يفهم الخِطاب ويحسن الجواب. أي: إذا كلمته فهم ما تريد، وإذا أجابك أحسن الجواب على الوجه الذي تطلب والفرق بين القولين: أن الصبي قد يكون قوي الذكاء فيحسن الجواب والخطاب وعمره خمس سنوات، أو ست سنوات؛ فحينئذٍ -على القول الأول- ليس بمميز، وعلى القول الثاني هو مميز، والصحيح اعتبار السن.

فقوله: [ولا صبي لبالغ] أي: ولا تصح إمامة الصبي، والصبي من هو دون البلوغ، ومحل الخلاف في المميز، واختلف العلماء لو أن صبياً كان حافظاً لكتاب الله عز وجل، وأمّ البالغين فهل تصح إمامته أو لا تصح؟

وجمهور العلماء على أن الصبي لا يؤم البالغين، وأنه لا يؤم البالغين إلا البالغ. وبهذا القول قال فقهاء الحنفية والمالكية والحنابلة رحمةُ الله على الجميع.

القول الثاني: إن الصبي إذا كان أحفظ القوم فإنه يؤم البالغين ولا حرج في ذلك، وبهذا القول قال الإمام الشافعي، وهو كذلك قولٌ لطائفة من أصحاب الإمام أحمد رحمةُ الله على الجميع.

والذين قالوا: لا يؤم الصبي البالغين احتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب البالغين فقال في الحديث الثابت في الصحيح: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) يخاطب البالغين، فدل على أنه لا يؤم البالغين إلا واحد منهم.

وقالوا أيضاً: إن الصبي كالمجنون؛ لأن الصبي لم يبلغ الحلُم ولم يكتمل عقله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (رفع القلم عن ثلاثة ) ثم قال: (وعن الصبي حتى يحتلم)، فأخبر أنه لا يبلغ الحلم والعقل، وهذا معروف ومجمع عليه، فالصبي لا عقل عنده بمعنى الكمال، وبناءً على ذلك قالوا: إنه كالمجنون وهذا ضربٌ من القياس والنظر.

الوجه الثالث: قالوا: إن الصبي إذا أمّ البالغين فإنه متنفل؛ لأن الصلاة ليست بواجبةٍ عليه، والذين يصلون وراءه من البالغين مفترضون، ولا يؤم المتنفل المفترض. فهذه هي أوجه من قال بعدم صحة إمامة الصبي للبالغين.

أما الذين قالوا بصحة إمامة الصبي للبالغين فاحتجوا بحديث عمرو بن سلمة -وهو ثابت في الصحيح- أنه قال: كانت العرب تلوم بإسلامها فتح مكة.. ومعنى هذه العبارة: أن العرب كانوا يقولون: اتركوا هذا الرجل وقومه، وكانوا يجلون قريشاً ويقدرونها ويعظمون أمرها، وكانوا يقولون: أهل الحرم -أي: أهل مكة- لا يقصدهم ظالم إلا آذاه الله عز وجل، ولا يسلم من نقمة الله عز وجل. فقالوا: إن كان محمدٌ ظالماً فسيكفيكم أمره ظلمه لقريش، وإن كان على حق وغلبهم أسلمنا وأطعنا، فقال عمرو بن سلمة: كانت العرب تلوم بإسلامها فتح مكة. أي: تنتظر ما الذي سيجري بين محمدٍ وأهل مكة، فلما فتحت مكة ظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم دينه دين حق؛ لأنه لو لم يكن على حق لما فتحت له مكة، كما قال الله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:1-2]، قال: فقدم أبي وقومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلمهم ما شاء الله أن يعلمهم من أمور الإسلام وشرائعه. قال: ثم قال عليه الصلاة والسلام: (صلوا صلاة كذا في حين كذا وكذا وليؤمكم أكثركم قرآناً)، والرواية في الصحيح تقول: فرجعوا فنظروا فإذا أنا أكثرهم أخذاً للقرآن فقدموني.

قالوا: وهذا الحديث فيه أن عمرو بن سلمة وهو غلام ابن تسع سنوات قد أمَّ هؤلاء البالغين، وكان في عصر التشريع والوحي، فلو كانت إمامة الصبي للبالغين لا تصح لما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم لهم ذلك. ووجه هذا أنهم قالوا: إن عموم قوله: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله) يدل على أن الصبي إذا كان حافظاً للقرآن فإنه يقدم.

وناقش الجمهور هذا الحديث من وجوه:

فكان الإمام أحمد رحمة الله عليه إذا ذكر هذا الحديث -كما نقل عنه الإمام ابن قدامة وغيره- يقول: أي شيءٍ هذا؟ أي شيء هذا؟ دعه فإنه ليس ببين.

والسبب في هذا أن حديث عمرو بن سلمة فيه إشكال، ووجهه أنه يقول: (كنت أؤمهم) وكان من التابعين ولم يلق النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا سجد بدت عورته كما في رواية البخاري ، فقالت امرأة: استروا عنا است قارئكم. فالإمام أحمد فطن إلى هذا المأخذ؛ إذ إن الإنسان لو صلى مكشوف العورة بالاختيار لبطلت صلاته، فدل على أنهم مجتهدون وهم قريبوا العهد بالجاهلية كما هو ظاهر الرواية في الصحيح، فكان رحمه الله يقول: أي شيءٍ هذا؟ دعوه فإنه ليس ببين. أي: إذا أُخذ على ظاهره من أنهم اجتهدوا؛ لأنه قال: فرجعوا فنظروا. فقوله: (فنظروا) واضح في الدلال على أنهم اجتهدوا.

كما رد الجمهور على هذا الحديث بوجهٍ ثانٍ، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وليؤمكم أكثركم قرآناً)، فقوله: (يؤمكم) خطاب، وكاف الخطاب توجهت إلى البالغين الذين هم أمامه، وقال: (أكثركم قرآناً) وهذا فيه تقييد بالبالغين.

وفي الحقيقة القول الذي يقول بجواز إمامته له وجهٌ وحظٌ من السنة، والقول الذي يقول بعدم إمامته هو من القوة بمكان، خاصةً وأن الحديث لم يسلم من النظر من جهة متنه.

وأما رواية عبد الرزاق أن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع وأقر، فهي رواية ضعيفة، والرواية التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بإمامة عمرو بن سلمة روايةٌ ضعيفة.

كما أجاب الجمهور على من قال: إن هذا كان في عصر الوحي ولا يسكت الوحي عنه لو لم يصح بأن هذا وقع بعيداً كان ببعدٍ عن مكان التشريع، أي: عن المدينة ويقع منهم باجتهاد بنص الراوي الذي يقول: فنظروا. فقالوا: إن هذا لا يقوى على العدول عن الأصل الذي خوطب فيه البالغون بأن يؤمهم واحدٌ منهم.

والاحتياط ألا يقدم الصبيان، ولذلك الإمام الشافعي لما قال بجواز إمامة الصبي للبالغين قال: والأولى -كما هو نص عبارته في كتاب الأم- ألا يؤم البالغين إلا البالغ. حتى يحتاط لصلاة الناس وإمامته بهم، فهذا أمر.

الأمر الثاني: أن الإمامة منصب وتشريف، وفيه دلالة وقدوةٌ على الخير، فإذا تقدم كبار السن وأهل الحلم والعقل والفضل هابت الناس هذا المكان وأجلته وحفظته، وتلقت من صاحبه وتأثرت به، وكان لصاحب هذا العقل والسن أثرٌ في الدعوة والتأثير على الناس من صلحٍ ودعوة إلى الخير وهداية إليه، ولكن إذا تقدم صغار السن والأحداث فإنه لا يؤمن عليهم أن يفتنوا، وقد قال الشافعي : إذا تصدر الحدث افتتن.

الأمر الثالث: إذا كان دون البلوغ فعندما يتقدم الناس ويصلي بهم قد يكون له صوته ونغمته وأداؤه، ولكن ليس عنده تحفظ في بعض الأمور التي لا تليق، فمن النقص بمكان أن يقدم مثل هذا الذي تصدر منه أمور لا تليق بمثله وكونه إماماً للناس أن يفعله، ولذلك لا شك أن الاحتياط في صلاة الناس وصيانتها عن صغار السن أولى وأحوط، ومما يؤيد هذا أن عمر بن عبد العزيز -كما روى عبد الرزاق في مصنفه- كان عامله على الطائف كتب إليه: إنني قد قدمت ابني على الناس في صلاة التراويح -وكان ابنه صغيراً لم يبلغ، وكان حافظاً- فكتب له عمر بن عبد العزيز يوبخه: ما كان لك -أي: ما كان ينبغي لك- أن تقدم على الناس صبياً لم يبلغ الحلم. وهذا كله نظرة إلى تشريف الإمامة، وما ينبغي من صيانتها وتعظيم أمرها، حتى يكون ذلك أدعى لحفظ الناس وهيبتهم لهذا المقام.

ولو صلى الصبي بالبالغين وكان البالغ يرى جواز إمامته فلا حرج، فالقول بجوازها له وجهٌ من السنة، والقول بمنعها فيه احتياطٌ وصيانة لصلاة الناس، والكل على خير.

قال رحمه الله: [وأخرس].

أي: ولا تصح الإمامة من أخرس، وهو الذي لا ينطق، وكل من كان مبتلىً بالخرس -على أحد الوجهين- فإنه لا يتقدم الناس، والسبب في ذلك أن الإمام يتحمل القراءة، قال صلى الله عليه وسلم: (الإمام ضامن)، فالأخرس لا يستطيع القراءة، فكيف يتحمل عن الناس قراءتهم؟ وكيف يقوم بواجبات الصلاة وأركانها المشتملة على قراءة الفاتحة، وهكذا بالنسبة لأذكار الانتقال من التكبير والتسميع ونحو ذلك؟ فلا تصح إمامة الأخرس.

قال رحمه الله: [ولا عاجز عن ركوعٍ أو سجود أو قعود أو قيام].

هذه كلها أركان للصلاة، فالقيام مع القدرة والركوع والسجود والجلوس كلها من أركان الصلاة، فقالوا: إذا كان الإمام عاجزاً عن القيام أو الجلوس أو الركوع أو السجود فإنه لا يصلي بغيره، والسبب في ذلك أنه معذورٌ في نفسه وغيره غير معذور، فعذره لا يتعدى إلى الغير، ومن ثم قالوا: لا يؤم العاجز عن القيام والعاجز عن الركوع والسجود غيره، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى جالساً في موضعين: الموضع الأول: حينما وقع من على فرسه وجرح شقه الأيمن، قال أنس -كما في صحيح مسلم- : (سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم من على فرس فجحش شقه الأيمن -أي: جرح-، فصلى قاعداً فصلى وراءه أصحابه قياماً، فلما سلم قال: لقد كدتم أ، تفعلوا فعل الأعاجم. ثم قال عليه الصلاة والسلام: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا... وإذا رفع فارفعوا، إلى أن قال: وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين)، فهذا يدل على أنهم يقتدون بالإمام إذا كان جالساً، وبناءً على ذلك قالوا: إذا كان معذوراً وهو الإمام الراتب جاز أن يصلي بالناس قاعداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إمامٌ راتب.

والذين يقولون بالمنع من إمامة من يعجز عن الركوع والسجود والقيام السبب عندهم أن العجز مختصٌ به والإمام ضامن، وبناءً على ذلك لا يكون الناقص ضامن للكامل، وعلى هذا لا يحمل ولا يضمن للناس صلاةً فلا يصح أن يتقدم بهم، وهناك حديث: (لا يؤمن أحدٌ بعدي جالساً)، وهو حديث ضعيف.

قال رحمه الله: [إلا إمام الحي المرجو زوال علته، ويصلون وراءه ندباً].

هذه المسألة فيها خلاف، فقال بعض العلماء: لا يؤم الإمام الجالس أو القاعد مطلقاً، سواءٌ أكان إمام حيّ أم غيره. ويحتجون بالحديث الذي ذكرناه، ومنهم من قال: يؤم الإمام ولو كان جالساً إذا كان إماماً راتباً أو إمام الحي فإنه يؤم جالساً ويصلي الناس وراءه، واختلفوا في المأمومين على قولين، فقيل: يصلون قياماً. وقيل: يصلون جلوساً مثله.

فالذين قالوا: يؤم ويصلي الناس وراءه جلوساً يحتجون بحديث أنس ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سقط من على الفرس وصلى جالساً عتب على الصحابة أن صلوا وراءه قياماً، وبناءً على ذلك قالوا: إن هذا يدل على أن الإمام لا يصلى وراءه إلا بالصفة التي هو عليها، فإن صلى معذوراً جالساً صلينا وراءه جلوساً لقوله عليه الصلاة والسلام: (وإن صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين).

القول الثاني يقول: لا يصلون وراءه جلوساً، وإنما يصلون وراءه قياماً؛ لأن الإمام معذورٌ في حق نفسه ومن وراءه غير معذور، فهو مخاطبٌ بأن يقوم كما أمره الله، فيبقى العذر مخصوصاً بصاحبه ويبقى غيره على القيام، فقيل لهم: كيف تجيبون عن حديث أنس ؟ قالوا: حديث أنس كان في أول الأمر، ثم نسخ بصلاته عليه الصلاة والسلام في مرضه.

فإنه لما مرض مرضَ الموت وتقدم أبو بكر ليصلي بالناس جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة ثم قعد فصلى، فصلى أبو بكر بصلاته يسمع الناس، فكان النبي صلى الله عليه وسلم جالساً والصحابة من ورائه قياماً، فقالوا: هذا وقع في آخر إمامةٍ أَمّ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة، ويؤكدون هذا بأن النصوص قوية في الدلالة على مخاطبة المكلف بالقيام، فنبقي هذه النصوص التي أوجبت القادر على القيام على دلالتها، ثم يستثنى الإمام لمكان العذر، وتكون صورة الصلاة كصورة إمامته عليه الصلاة والسلام في هذه الواقعة التي كانت آخر حياته، بل كانت آخر إمامةٍ وقعت منه عليه الصلاة والسلام للصحابة.

وجمع الإمام أحمد رحمةُ الله عليه بين هذه النصوص فقال: إذا كان إمام الحي المرجو زوال علته فإنهم يصلون وراءه جلوساً -على الصفة التي ذكرناها، ويكون ذلك ندباً كما ذكر العلماء رحمةُ الله عليهم، وهذا بأمره عليه الصلاة والسلام- وأما إذا كان طرأ عليه العذر أثناء الصلاة فإنهم يصلون وراءه قياماً. فجمع بين الحديثين بأن قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى جالساً فصلوا جلوسا أجمعين) عام سواءٌ أبتدأ الصلاة جالساً أم طرأ عليه الجلوس أثناءه، وأما حديث مرض الموت فإن الجلوس من الإمام طرأ ولم يكن في أول الصلاة؛ لأن الذي استفتح الصلاة إمامٌ قائم وهو أبو بكر ، والجلوس طرأ بعد هذه الإمامة، وبناءً على ذلك يقول: كأنه وجب عليهم أن يقوموا في مرض الموت، وبقي حديث أنس على العموم. فكأنه يرى أنه لا يصلي المأمومون وراء الإمام قياماً إلا في حالةٍ واحدة، وهي أن يستفتح الصلاة بهم وهو صحيح ثم يشتد عليه مرضه فيجلس، فإذا استفتح بهم الصلاة وهو صحيح واشتد عليه المرض وجلس فيصلي المأمون وراءه قياماً، وأما في غيرها، كأن يصلي من بداية الصلاة جالساً فيصلي الناس وراءه جلوساً. فهذا في الحقيقة فيه الجمع بين النصوص وهو أقوى الأقوال -إن شاء الله- وأقربها إلى الصواب.

وقوله: [ويصلون وراءه جلوساً ندبا].

لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر، فصُرِف الأمر من الوجوب إلى الندب لوجود حديث مرض الموت؛ لأنه معارض لحديث الأمر، فحملوا الأمر على أنه محمول على الندب، وأكدوا هذا بأن الصحابة لما صلوا وراء النبي صلى الله عليه وسلم قياماً لم يؤثمهم. وقالوا: إن هذا يدل على أن الأمر للندب والاستحباب، وليس للحتم والإيجاب.

قال رحمه الله: [وإن ابتدأ بهم قائماً ثم اعتل فجلس ائتموا خلفه قياماً وجوباً].

هذا على ظاهر حديث مرض الموت، فإن الصحابة بقوا على حالتهم وهم قائمون، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك، وبناءً على ذلك نقول: إذا دخلت المسجد والإمام الراتب يريد أن يصلي جالساً واستفتح الصلاة جالساً فصل وراءه جالساً، ودليلك حديث أنس : (وإذا صلى جالساً فصلوا وراءه جلوساً أجمعين)، وأما إذا دخلت والإمام يستفتح الصلاة وليست به علة، ثم طرأ عليه المرض، أو طرأ عليه العذر فاحتاج للجلوس فإنك تبقى على القيام حتى تتم الصلاة لحديث مرض الموت.

قال رحمه الله: [وتصح خلف من به سلس البول بمثله].

بعد أن ذكرنا المعذور في الأركان انتقل إلى المعذور في الشروط، فابتدأ بالمعذور في شرط الطهارة.

فلو كان الإمام به علة، أو به مرض كسلس البول، فهذا المرض -في الأصل- يقتضي أنه معذور، وبناءً على ذلك فإن طهارته لا تأتي على الوجه الكامل، وإنما رُخّص له أن يتوضأ عند دخول وقت كل صلاة، وإلا فإنه غير متوضئ؛ لأن السلس لا يمكنه من إبقاء طهارته على ما هي عليه، فكأنك تصلي وراء إنسانٍ محدث، وبناءً على ذلك قالوا: هذا عذرٌ في حق نفسه أن يصلي وبه سلس، والإمام -خاصة على مذهب الحنابلة والحنفية- يحمل الفاتحة عن المأموم، ويحمل الأركان، فقالوا: لا بد وأن يكون على صفةٍ يكون بها حصول براءة الذمة، وهي أن يكون متطهراً، فلا يكون محدثاً، أو في حكم المحدث، فقالوا: صحيح أن الشرع عذره أن يصلي وبه سلس البول، ولكن عذره في حق نفسه، ولم يأتنا دليل أن من به سلس يصلي بالناس، وعلى هذا فإنه لا يصح أن يصلي بغيرهِ، وإنما يصلي بمن هو مثله، فلو وجد إنسان به سلس البول إماماً به سلس بول فإنه يصلي معه؛ لأن حالتهما واحدة، فيبني المثل على مثله، أما القوي فلا يبنى على الضعيف.

قال رحمه الله: [ولا تصح خلف مُحدِث].

قوله: [ولا تصح خلف محدث] عموم، سواءٌ أحدث حدثاً أصغر أم أكبر، وصورة ذلك أن يعلم المأمومون أن إمامهم محدث، فإن علموا أن إمامهم محدث فإنه لا يجوز لهم أن يأتموا به، ولو وقع الحدث أثناء الصلاة وتابعوه بركنٍ واحد بعد الحدث بطلت صلاتهم، وإنما يلزمهم بمجرد حدث الإمام أن ينووا مفارقته.

فلو أن إماماً تقدم، ثم أحدث أثناء صلاته وإمامته، سواءٌ في أول الصلاة أم في وسطها أم في آخرها قبل تمامها، فالذي يفعله الإنسان هو أنه إذا أمكن أن يستخلف فلا إشكال، لكن لو كان جاهلاً، أو لا يمكنه الاستخلاف فإنك تنوي المفارقة، وتنوي مفارقته كأنك منفرد، وتحتسب لنفسك ما كان من صلاتك، وبناءً على ذلك لو أحدث في الركعة الثانية وأنت في الظهر فتتم الثانية ثم الثالثة والرابعة وتسلم، وهذا إذا أحدث وعلمت بحدثه أثناء الصلاة، أما لو علمت بحدثه قبل الصلاة فلا يجوز لك أن تأتم بإمام محدث، وبناءً على ذلك لو ائتم به وهو يعلم بحدثه قبل الصلاة بطلت صلاته.

وهناك صورةٌ ثالثة وهي لو أن هذا الإمام كان محدثاً ولم يعلم المأمومون إلا بعد انتهاء الصلاة، كما لو قام إلى صلاة الفجر يظن أنه على غير جنابة، فتوضأ ثم صلى بالناس، وبعد أن سلم وانتهى تبين له أنه محدث، أو أحدث حدثاً أصغر ثم نسي أنه محدث، فتذكر أنه على طهارة ولم يذكر الحدث الذي بعد طهارته، ثم تقدم وصلى بالناس، وبعد أن صلى تذكر أنه أحدث قبل صلاته، فللعلماء في هذه المسألة قولان:

القول الأول: إذا كان الإمام محدثاً ولم يعلم المأمومون بحدثه إلا بعد الصلاة فإن صلاتهم صحيحة. وبهذا قال جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة وطائفة من أهل الحديث. أي أن الإمام إذا صلى بالناس ناسياً للحدث، ثم لم يتذكر إلا بعد انتهاء الصلاة فإن صلاة المأمومين وراءه صحيحة، ولو كان بعد تسليمه مباشرة.

القول الثاني: إن صلاة المأمومين فاسدة وتلزمهم الإعادة حتى ولو بعد سنوات وبهذا القول يقول فقهاء الحنفية رحمةُ الله على الجميع.

واستدل الجمهور على صحة صلاة المأمومين بما ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأئمة: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأو فلكم وعليهم)، فوجه الدلالة من هذا الحديث أن قوله: (وإن أخطأوا فلكم) أي: لكم صلاتكم كاملة، (وعليهم) أي: عليهم خطؤهم. وهذا عام يشمل خطأ الشروط وخطأ غيرها.

وبناءً على ذلك يقولون: إن هذا يدل على صحة الصلاة وراء الإمام المحدث.

وكذلك احتج الجمهور بإجماع الصحابة، وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه -كما روى مالك عنه في الموطأ- صلى بالناس الفجر ثم انطلق إلى مزرعته بالجرف بضاحية المدينة، فلما جلس على الساقية -على قنطرة الماء- نظر إلى فخذه فإذا هو بأثر الماء من الاحتلام فقال: ما أُراني إلا أجنبت وصليت وما اغتسلت. فقام رضي الله عنه مباشرة واغتسل وأعاد صلاة الفجر بعد طلوع الشمس، ولم يأمر الناس بالإعادة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة رضوان الله عليهم. فهذه سنةٌ راشدة عن خليفةٍ راشد في نفس المسألة المتنازع عليها، ولم ينكر عليه أحدٌ من فقهاء الصحابة وأجلائهم، وبناءً على ذلك فكأنه إجماع منهم أن الإمام إذا صلى بالناس وهو لا يعلم بحدثه فإن صلاتهم صحيحة، ولا تلزمهم الإعادة.

وأما الذين قالوا بأنه تلزمهم الإعادة فإنهم احتجوا بما جاء عن علي رضي الله عنه أنه صلى بالناس الفجر، ثم رأى أثر الاحتلام، فأمر منادياً أن ينادي في الناس بإعادة صلاة الفجر. ووجه الدلالة أن علياً أعاد الصلاة، ولم تكن الإعادة لازمة حتى ألزم الناس بها.

والذي يترجح في نظري -والعلم عند الله- هو القول بعدم الإعادة، وأن الصلاة صحيحة؛ لظاهر الأدلة من السنة والآثار عن الصحابة رضوان الله عليهم، وأما ما احتج به أصحاب القول الثاني من أثر علي ففيه كلام، ولو صح فإنه معارض بما هو أقوى، ويحتمل أن علياً لم يبلغه حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ونقول: إن فعل علياً قد عارضه فعل عمر، ولا شك أن عمر رضي الله عنه محدَّثٌ ملهم مقدم؛ لأنه إذا تعارضت آراء الصحابة نظر إلى الفضائل، ففضل عمر رضي الله عنه لا شك أنه مقدمٌ على فضل علي رضي الله عن الجميع.

وبناءً على هذا فإن الذي يترجح هو القول بصحة الصلاة، وأن المأمومين لا تلزمهم الإعادة، ودرج على هذا المصنف رحمه الله، وهو قول الجمهور كما قلنا.

قال رحمه الله: [ولا متنجس يعلم ذلك، فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت صحت لمأموم وحده).

قوله: [ولا متنجس] أي: ولا تصح الصلاة وراء متنجس يعلم بنجاسته، كإنسان -مثلاً- كان على ثوبه بول، أو غيره من النجاسات، فإنك إذا رأيت النجاسة في ثوب الإمام فإن أمكنك أن تريه النجاسة وينصرف ويستخلف فلا إشكال، فلو أن النجاسة في طرف كمه فإنك تتقدم إلى جوار الإمام وتسحب كمه لتريه -لأنها حركة لمصلحة الصلاة- حتى يستخلف وتصح صلاة من وراء.

وإذا تعذر عليك إعلامه، أو كان الإمام جاهلاً فحينئذٍ بمجرد رؤيتك للنجاسة والخلل في الإمام فإنك تنوي مفارقته -أي: تنوي أنك منفرد-، وتتم لنفسك وصلاتك صحيحة، أما لو رأيت النجاسة وبقيت وراءه عالماً بنجاسته التي في ثوبه فإن صلاتك وراءه باطلة، وتبطل بأداء ركنٍ واحد بعد العلم.

قوله: [فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت صحت لمأمومٍ وحده].

هنا مسألتان: المسألة الأولى: أن يصلي الإمام وهو مُحدث غير عالمٍ بحدثه؛ فلا إشكال أنه يطالب الإمام بالإعادة ولا يطالب المأمومون.

الحالة الثانية: أن يصلي بنجاسته التي لا يعلمها حتى ينتهي من الصلاة فلا يعيد هو ولا المأمومين.

فإذا كان الإمام محدثاً فحينئذٍ تلزمه الإعادة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، وأما إذا كان في ثوبه أو بدنه نجاسة لا يعلمها، فإن الإعادة لا تلزمه ولا تلزم المأمومين، والسبب في ذلك حديث أنس الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى بالصحابة فخلع نعاله أثناء الصلاة، فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم -عليه الصلاة والسلام- قال: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله! رأيناك خلعت فخلعنا. فقال عليه الصلاة والسلام: أما إنه قد أتاني جبريل فأخبرني أنهما ليستا بطاهرتين)، أي: خلعتهما لعذر، وهو وجود النجاسة.

ووجه الدلالة من هذا الحديث -وهو دقيق- أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعد الصلاة من بدايتها، حيث كبر تكبيرة الإحرام، ويحتمل أنه فعل بعض الركعات، ومع ذلك لم يستأنف الصلاة بعد العلم بالنجاسة، وإنما بنى، فكما صحت أجزاء الصلاة والإحرام بتكبيرة الإحرام التي هي الركن، فكذلك تصح الصلاة في كمالها إذا علم بعد السلام، وبناءً على ذلك يفرق في الإمام بين أمرين: الأول: أن يكون محدثاً ولا يعلم بحدثه أو لا يتذكر أنه محدث إلا بعد الصلاة. فإنه حينئذٍ تلزمه الإعادة. والثاني: أن يكون الإمام عليه نجاسة في بدنه أو ثوبه ولا يعلم بها، أو كانت في المكان الذي يصلي به ولا يعلم بها إلا بعد انتهاء الصلاة، فصلاته وصلاة من وراءه صحيحة.

قال رحمه الله: [ولا إمامة الأمي، وهو من لا يحسن الفاتحة، أو يدغم فيها ما لا يدغم، أو يبدل حرفاً، أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى إلا بمثله].

أي: ولا تصح إمامة الأمي، والأمي نسبة إلى أمه، أي: الإنسان الذي لا يقرأ ولا يكتب. والأمية وصفٌ لهذه الأمة، والعلماء رحمةُ الله عليهم يقولون: الأمية وصف شرف لهذه الأمة. على خلاف ما يظن بعض المتأخرين -وخاصة في هذه الأزمنة- أن الأمية وصف ذلة، أو وصف نقص. فهذا ليس بصحيح، بل الأمية وصف شرف لهذه الأمة، قال تعالى: الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ [الجمعة:2]، وقال عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين-: (إنا أمةٌ أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا).

وانتبه رحمك الله: فإن الأمية لا تستلزم الجهل، وفرق بين الأمية والجهل؛ لأن الإنسان قد يكون أمياً لا يقرأ ولا يكتب وهو عالم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إمام العلماء وقدوتهم صلوات الله وسلامه عليه وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، فليست الأمية مستلزمةً للجهل، وفرق بين الجهل والأمية، إلا أنهم قالوا: الغالب في الشخص إذا بقي على حاله منذُ أن ولدته أمه أن يكون جاهلاً أي: أنه يكون به الجهل، ولكن ليس هذا مطرداً، فكم من علماء لا يقرؤون ولا يكتبون، وكم من كفيف البصر لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك قد يكون أعلم الناس وأعرفهم بالحلال والحرام. فعدم القراءة والكتابة الذي هي وصف الأمية لا يستلزم الجهل، ولذلك قالوا: إن الأمية وصف شرف لهذه الأمة، وليست بوصف نقص.

ف(الأمي) الذي يجهل، فالجاهل الذي لا يعلم أحكام الصلاة ولا يعرف ما يقرأ فإنه لا تصح صلاته إلا بمثله، وبعض العلماء يضع ضابطاً للأمي فيقول: هو من لا يحسن الفاتحة. وهذا ضابط خاص بالإمامة وهو الصحيح، فالمراد بالأمي: الذي لا يحسن الفاتحة، وبناءً على ذلك إذا كان لا يحسن الفاتحة فإنه لا تصح صلاته إلا بمثله أو من هو دونه، ولكن إذا كان أعلم منه فللعلماء قولان:

قال بعض العلماء: إذا أمّ الأمي غيره ممن هو أحسن منه وأعلم منه بطلت صلاة من وراءه وصحت صلاة الأمي.

وقال الحنفية: إذا حضر القارئ والأمي في الصلاة بطلت صلاة الأمي ومن وراءه والقارئ معه؛ لأن الواجب أن يقدم القارئ، وكانوا معذورين قبل حضور القارئ، فلما حضر القارئ بطل عذرهم، ووجب عليهم أن يأتموا بالقارئ؛ لأنه عندهم، والإمام لا بد وأن يكون على وجه يضمن به، لقوله عليه الصلاة والسلام: (الإمام ضامن)، وبناءً على ذلك لا تصح إمامة الأمي إلا بمثله أو من هو دونه.

قوله: [وهو من لا يحسن الفاتحة، أو يدغم فيها ما لا يُدغَم، أو يبدل حرفاً].

هذا كله من صفات الأمي فمن ذلك أن لا يحسن الفاتحة، أو يدغم ما ليس يُدغم، فتجده يغير في أوضاع الحروف وصفاتها التي هي من حقوق الحرف، فإذا كان بهذه الصفة فلا تصح إمامته، ولو كان يبدل المعنى ويلحن لحناً يحيل المعنى كأن يقول: (أَهدنا الصراط المستقيم)، أو يقول: (إِياكِ نعبد)، فإن (إياكَ) و(إياكِ) معناهما مختلف؛ فإنه إذا قال: (إياكِ) خرج عن المعنى المقصود، ويعتبر لحناً محيلاً للمعنى، فتبطل صلاته، فإذا صُلي وراء مثل هذا تبطل صلاة من وراءه، ويعذر إذا كان جاهلاً وليس هناك من يعلمه.

أما لو كان هذا الأمي يمكنه أن يتعلم وقصر في التعليم فإنه تبطل صلاته وصلاة من رواءه وتلزمه الإعادة مدة تقصيره. فلو كان الأمي في بادية بعيداً عن الناس، وليس عنده من يعلمه فإنه يعذر، وبناءً على ذلك يعتبر بُعده وعدم وجود من يعلمه عذراً له، لكن لو فرض أنه كان بموضعٍ قريب من العلماء ويمكنه أن يأتيهم، أو جاء أناس من أهل العلم إلى الموضع الذي هو فيه وأمكنه أن يصحح قراءته فقصر وترك التصحيح، ولم يتعرض لهم بشيء ليتيسر له أن يصحح قراءته ولم يفعل؛ فتعتبر صلاته وصلاة من وراءه باطلة؛ لأنه غير معذورٍ حينما كان عاجزاً عن إتقان الفاتحة، لكنه لما تيسر له أن يتقنها قالوا: فإنه يأثم، ويكون عليه إثمه وإثم من يصلي وراءه -نسأل الله السلامة والعافية-. وقالوا: لو صلى بالناس عشر سنوات بهذه الصفة تلزمه الإعادة عشر سنوات. فالأمر جد عظيم، فإذا كان يلحن في الفاتحة لحناً يحيل المعنى ويمكنه أن يجلس مع العلماء ولا يتعلم، أو جاءه عالمٌ، أو من يستطيع أن يصحح له قراءته فامتنع وتكبر، أو استنكف، أو اعتذر بأعذار لا تغني فإنه يأثم ويتحمل وزره ولو مرت عليه سنوات، نسأل الله السلامة والعافية.

قوله: [أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى].

هذا كما لو قال: (أنعمتُ عليهم). فإذا قال: (أنعمتُ عليهم) أو: (إياكِ نعبد) أو: (أََهدنا الصراط المستقيم)، أو أبدل حرفاً بحرف، أو أدغم بعض الحروف ببعضها يجعل في موضع لا يصح فيه الإدغام فإنه في هذه الحالة يعتبر لحناً مؤثراً، وهكذا إذا لحن، أو كان في لسانه علة يبدل بها حرفاً مكان حرف، كأن يقول: أهدنا الشراط. بدل الصراط، فإنه في هذه الحالة يكون إبداله مؤثراً، وهكذا بالنسبة للتمتام والفأفاء ونحوهم ممن فيه آفة في لسانه لا تمكنه من إعطاء الحروف حقوقها من الصفات المعتبرة.

وقوله: [إلا بمثله].

أي: إذا أم الأمي مثله صحّت.

قال رحمه الله: [وإن قدر على إصلاحه لم تصح صلاته].

أي: وإن قدر على إصلاح خطئه لم تصح صلاته؛ لأنه مفرط ويلزم بعاقبة تفريطه، وهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من التكبر والاستنكاف عن الحق، ومثل هذا لا يجوز أن يقدم إذا كان يلحن لحناً يحيل المعنى وهناك من يستطيع أن يقرأ بدون لحن، فيجب على الناس أن يقدموا القارئ، وإذا لم يقدموه فإنهم يأثمون.

قال رحمه الله: [وتكره إمامة اللحان والفأفاء والتمتام، ومن لا يفصح ببعض الحروف، وأن يؤم أجنبية فأكثر لا رجل معهن أو قوماً أكثرهم يكرهه بحق].

أي: الذي يلحن لحناً لا يحيل المعنى، أما لو كان لحناً يحيل المعنى فكما تقدم في الأمي.

وقوله: [والفأفاء والتمتام].

الفأفاء: الذي إذا جاء يقرأ يكثر من الفاء أثناء حديثه بقوله: (فففـ)، فتجده يرددها مرات.

والتمتام في التاء، فتجده إذا أراد أن يتكلم يتأخر ويأتي بالتاء مكررة.

قوله: [ومن لا يفصح بعض الحروف].

كأن يقول: (الشراط) بدل الصراط، أو تكون صفات الحروف متداخلة عنده بطبيعة لسانه، أو يكون فيه عجمة، كأن يقول في (الرحمن): الرهمن، بالهاء، فهذا أيضاً يعتبر إبدال حرف بحرف، وهكذا بالنسبة للراء إذا كان ألثغ.

قوله: [وأن يؤم أجنبيةً فأكثر لا رجل معهن].

أي: ويكره له أن يؤم أجنبية فأكثر لا رجل معهن، وذلك لأنه منهي عن الدخول على النساء والخلوة بهن إذا لم يكنّ من المحارم، قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم والدخول على النساء. قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت)، وإذا خلا بأجنبية فإنه منهي عن هذه الخلوة لقوله عليه الصلاة والسلام: (ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، وقال: (ألا لا يخلون رجلٌ بامرأة) فهذا نهي، قالوا: وبناءً على ذلك لا يصلي الرجل الأجنبي بالمرأة الأجنبية على خلوة؛ لأنه قد يخرج عن مقصود الصلاة إلى الفتنة.

وقوله: [أو قوماً أكثرهم يكرهه بحق].

لقوله عليه الصلاة والسلام: (وأن يؤم القوم وهم له كارهون)، وفي هذا الحديث وعيد شديد، حتى عد بعض العلماء هذا من الكبائر.

والكراهة تنقسم إلى قسمين: إما تكون كراهةً مشروعة، وإما أن تكون كراهةً غير مشروعة.

فالكراهة المشروعة التي تكون لخلل في الإمام لدينه، أو يكون إنساناً يعسر عليهم ويؤذيهم ويخرج عن حدود السنة، فتجده يطوّل عليهم وأسلوبه منفر، فمثل هذه الكراهة شرعية، ولذلك لما جاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه يتأخر عن الصلاة مما يطول فلان قال عبد الله فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ووعظ موعظةً أشد من تلك الموعظة وقال: (إن منكم منفرين) فأقر الرجل حينما كره من هذا الإمام إطالته، ولما شكي بـمعاذ في الإطالة لم يعتب على الشاكي في ذلك، وإنما سمع شكواه، وعنف معاذاً وقال له: (أفتانٌ أنت يا معاذ )، فهذه كراهة مشروعة، فكون الإمام إذا دخل المحراب نسي من وراءه، فلم يرحم الشيخ الكبير، ولا يراعي السقيم، ولا يراعي ذا الحاجة، ولربما يكون المسجد في مكانٍ فيه الناس في شغل فلا يراعي أوضاعهم، ويحاول أن يطول بهم ويعنفهم، وقد تكون فيه شدة وغلظة وعنف فمثل هذا يكره كراهة جبلية لا يستطيع الإنسان أن يمسك عنها نفسه، خاصةً وأنه على خلاف السنة، وعلى خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إليه، فقال: (إن منكم منفرين)، فإذا كرهوه لهذا الوجه من وجود العنف والمشقة والإضرار بهم فالكراهة شرعية، ومثل هذا ينطبق عليه الوعيد الشديد، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا تجاوز صلاتهم رءوسهم قيد شبر: -أي: لا تقبل منهم نسأل الله السلامة والعافية، ولا ترفع إلى السماء- رجلٌ أم قوماً وهم له كارهون، وعبدٌ أبق عن سيده حتى يعود إليه، وامرأةٌ باتت وزوجها عليها ساخط)، فهؤلاء الثلاثة لا تجاوز صلاتهم رءوسهم قيد شبر، فنسأل الله السلامة والعافية.

وإذا كان الإمام لا يبالي فالأمر أشد وأعظم، فإذا قيل له: إن الناس يكرهونك. أو: لا تطول على الناس ولا تؤذهم، قال: من أعجبه فالحمد لله، ومن لم يعجبه فلينصرف. فهذه جرأة، ومثل هذا على خطر، فينبغي عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يراقب نفسه، وأن يستشعر أنه على نقص وأنه بشر، وقد يكون من الإنسان الخطأ وهو لا يدري، فالعين لا ترى ما بها إلا بالمرآة، فالإنسان لا يستطيع أن يرى ما بعينه إلا بمرآة، والمرآة هم الناس، فإذا جاءك الناس وقالوا لك: إنك تطول أو جاءك أكثر من شخص، أو شخص تثق بدينه وبأمانته فاعذر الناس وأنصفهم من نفسك.

وأما الكراهة غير الشرعية فهي التي تكون من أناس متساهلين في أمور دينهم والإمام يدعوهم إلى السنة، ويدعوهم إلى طاعة الله عز وجل فيكرهونه لأنه يدعوهم إلى الخير، ويكرهونه لأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويكرهونه؛ لأنه لا يحابيهم، ويصدع بالحق، فهذه الكراهة وجودها وعدمها على حدٍ سواء، ومثل هذا ينطبق عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس)، فهذا على خير وعلى سنة ورشد، فإن كان الإمام مكروهاً فإنه لا يقدم على الناس من يكره؛ لأنه إذا تقدم على الناس من يكره لا ترتاح الناس للصلاة وراءه، ولا تتأثر بقراءته، ولا تتأثر بمواعظه، وفي هذا صرف للناس عن الخير، ولذلك عاتب النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً، وأمره أن يهيئ لنفسه ما يدعو إلى قبول إمامته وحبه والإقبال عليه.

قال رحمه الله: [وتصح إمامة ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما].

تصح إمامة هذين إذا كانا على ديانةٍ واستقامة، فولد الزنا الذنب ذنب غيره وليس بذنبه، وقد قال تعالى: وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، وكره بعض العلماء أن يقدم ابن الزنا للإمامة بالناس، وهذا قولٌ فاسد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، وقد يكون على صلاح وديانةٍ واستقامة، والذنب ذنب غيره وليس بذنبه هو، وليس عليهم من وزر والده شيء، وما ورد من أنه لا يدخل الجنة فباطل وقولٌ مردود مصادمٌ للنصوص الصحيحة الصريحة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا قولٌ شاذ لا يعول على مثله، وهذا قول رده العلماء وأبطلوه؛ لأنه يصادم النصوص الصحيحة الصريحة في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف يضيع الله صلاحه وقد صلح واستقام؟! وقد أخبر الله تعالى أنه يخرج الحي من الميت، فقد أخرج عكرمة من رأس الكفر أبي جهل ، فلذلك لا يمتنع أن يخرج العبد الصالح من أصل فاسد، وقد يكون الرجل زنى ثم تاب إلى الله فتاب الله عليه، وهكذا بالنسبة لأمه، فالمقصود: أن ولد الزنا تصح إمامته إذا استقام، لكن بعض العلماء يقول: إذا وجد غيره وهو مثله -أي: في مثل حاله- يقدم عليه؛ لئلا يغتابه الناس، ولأجل صيانة الإمام إذا وجد غيره، أما إذا لم يوجد غيره، أو كان أفضل الموجودين فخليقٌ بها، ونعما هو عليه.

وقوله: [والجندي].

كذلك الجندي تصح إمامته ويصلي بالناس إذا كان على استقامةٍ وخير.

قال رحمه الله: [ومن يؤدي الصلاة بمن يقضيها وعكسه].

مثال ذلك: لو أنك دخلت على أخيك وهو يصلي العصر -خاصةً عند من يقول: إنه يجوز أن تصلى الظهر وراء العصر- وأنت تنوي الظهر قضاءً فإنه يجوز ذلك ولا حرج فيه، فصلاتك مقضية وراء مؤدٍ، وهكذا لو قضى الظهر فجئت وصليت وراءه العصر أداءً صح هذا، فيصح الأداء خلف القضاء والقضاء خلف الأداء إذا اتحدت صورة الصلاتين، وبناءً على ذلك لا حرج، ويعتبر العلماء هذا مع اختلاف النية لحديث معاذ رضي الله عنه الثابت في الصحيح حينما كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء، وينطلق إلى قومه يصلي بهم العشاء فهو متنفل وهم مفترضون، فاختلفت نيته معهم، وقالوا: فلا يؤثر أن ينوي القضاء وينوي غيره الأداء، أو ينوي هو الأداء وغيره ينوي القضاء، فلا حرج في هذا.

وقوله: [وعكسه].

أي: كذلك لو صلى أداءً وصليت وراءه قضاء فلا حرج، وهكذا بالنسبة لصلاة الظهر، فلو أن إنساناً نسي صلاة الظهر البارحة ولم يذكرها إلا اليوم، ودخل عليك وأنت تصلي الظهر، فإنه هو قاضٍ وأنت مؤدٍ، فيصح القضاء خلف الأداء، ولو ابتدر هو بصلاة الظهر وصلاها بنية القضاء، ثم دخلت عليه بعده فنويت وراءه الأداء صح ذلك ولا حرج.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع