شرح زاد المستقنع باب الغسل [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

قال المصنف رحمه الله تعالى: [والغسل الكامل أن ينوي ثم يسمي].

كان الحديث عن موجبات غسل الجنابة، أي: الأسباب التي توجب الغسل من الجنابة، وهنا -إن شاء الله- سيكون الحديث عن صفة غسل الجنابة، وهذا الترتيب يعتبر مراعياً للأفكار -أي: ترتيب الأفكار- فبعد أن تنتهي من الأسباب تصف الشيء، وبعد أن تبين للمكلف ما هي الأمور التي تتسبب في غُسل الجنابة يأتيك السؤال: كيف أغتسل من الجنابة؟

فأولاً: نبين موجبات الغسل وأسبابه، ثم نتبع بعد ذلك بالحديث عن صفة الغسل.

فقال رحمه الله: [والغسل الكامل] الواو: للاستئناف، والغسل له حالتان عند العلماء:

الحالة الأولى: يسميها العلماء حالة الإجزاء.

والحالة الثانية: يسمونها حالة الكمال.

والفرق بين الإجزاء والكمال: أن الإجزاء يتحقق به المأمور شرعاً، بمعنى: أنك إذا أوقعت الغسل على صفة الإجزاء عليه فقد أديت ما أوجب الله عليك، وأما بالنسبة للكمال فإنه يراعى فيه ما فوق الواجب واللازم، بمعنى: أن يصف لك الغسل وصفاً على أتم وجوهه وأكملها، وبناءً على ذلك: انقسم الغسل إلى غسل إجزاء وغسل كمال، فلو أخل المكلف بغسل الإجزاء فقد يحكم بعدم صحة غسله، لكن لو أخل بغسل الكمال في غير الإجزاء تقول: فاته الأفضل والأكمل، وغسله صحيح.

يقول رحمة الله: (والغسل الكامل) أي: الغسل الذي هو على أعلى مراتب الغسل هو أن ينوي ثم يسمي، ومن عادة العلماء رحمة الله عليهم أن يذكروا حالة الإجزاء وحالة الكمال، والمصنف هنا ابتدأ بصفة الكمال، وغيره ابتدأ بصفة الإجزاء، فطريقة المصنف رحمه الله حينما ابتدأ بغسل الكمال تدرج فيها من الأعلى إلى الأدنى، وطريقة غيره ممن ابتدأ بالأجزاء ثم أتبعه بالكمال تدرج من الأدنى إلى الأعلى، وكلتا الطريقتين لها وجه.

أما طريقة المصنف بأن يبتدئ بالكمال ثم يبين لك غسل الإجزاء فهي أنسب؛ لأنه إذا فعل ذلك ترك التكرار، فإنك إذا ذكرت الغسل الكامل ثم قلت: والواجب منه كذا وكذا، أفضل مما لو قلت: الغسل الواجب كذا، ثم أتبعت صفة الكمال وذكرت ضمنها الواجبات، فطريقة المصنف في ذكر الكمال ثم إتباعه بالإجزاء أولى من طريقة غيره ممن ابتدأ بالإجزاء ثم أتبعه الكمال.

هذه الصفة التي يسميها العلماء: صفة الكمال، ثبتت بها أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها: حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وحديث ميمونة رضي الله عنها وأرضاها، وكلا الحديثين ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين، فقد وصفت كل منهما غسل النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهما من فصلت في شيء وأجملت في شيء، ومنهما من فصلت في شيء آخر وأجملت في غيره، وقد راعى العلماء رحمهم الله في صفة الكمال ما تضمنه حديث عائشة وحديث أم المؤمنين ميمونة رضي الله عن الجميع.

يقول رحمه الله: (أن ينوي) أي: ينوي الغسل، والنية: القصد، والمراد بها كما يقول العلماء: العزم على فعل الشيء تقرباً إلى الله تعالى، كما ذكر هذا التعريف البعلي في المطلع، وكذلك غيره، ومعنى (العزم على فعل الشيء تقرباً إلى الله تعالى): أن تعزم على عبادة أو معاملة، والهدف من ذلك والقصد من ذلك وجه الله عز وجل، سواءً كانت عبادة أو معاملة، فالعبادة: كأن تصلي فتفعل القيام والركوع والسجود وغيره من أفعال الصلاة وفي نيتك وجه الله جل وعلا، أما المعاملة: كأن تعطي ابنك المال قاصداً بذلك مرضاة الله عز وجل، فإنها عادة ولكنها صارت عبادة بالقصد.

بعض العلماء يقول: العزم على فعل الشيء، وبعضهم يقول: قصد فعل الشيء قربة لله، والتعبير بالقصد أنسب من التعبير بالعزم؛ لأن من العلماء من فرق بين القصد والعزم فقال: القصد: ما يكون عند توجه النية، والعزم: يكون متراخياً عن ذلك التوجه، ولذلك قالوا: التعبير بالقصد أدق، خاصة وأن الحقيقة اللغوية للنية عرفوها بالقصد، فيكون فيه اشتراك بين التعريف اللغوي والشرعي من هذا الوجه.

حكم النية في الغسل

(أن ينويه) يعني: أن ينوي الغسل، صورة ذلك: أن يدخل الإنسان مكان الاغتسال وفي نيته أن يعمم بدنه لرفع الجنابة، وهكذا المرأة لإزالة الجنابة، فإذا حصل هذا القصد فقد نوى العبادة وقصدها تقرباً لله عز وجل، وخرج من هذا أن ينوي فعل الشيء لغرض غير وجه الله، مثل أن يدخل مستحمه للتبرد أو للسباحة، فلو غسل جسمه كاملاً للسباحة لم يكن غسلاً شرعياً، وإنما هو غسل عادة وليس بغسل عبادة، ولذلك قالوا: النية تفرق بين العادة والعبادة.

فقوله: (أن ينوي الغسل) أي: ينوي رفع الحدث، فإذا نواه فقد أجزأه، والأصل في النية أن تكون مقاربة لزمان الفعل فلو أنه قال: أريد أن أغتسل من الجنابة وجلس من الساعة الثانية ظهراً إلى الساعة الثالثة، ثم عزبت عنه هذه النية، ثم دخل إلى مستحمه وسبح وقد عزبت عنه النية، فنقول: إن هذا لا يجزئ، إنما المعتبر أن تكون النية مصاحبة، قال بعض العلماء: حتى ولو في طريقه إلى السباحة جرى في نفسه أن يغتسل من الجنابة أجزأه؛ لكن لو كانت النية للنظافة أو للتبرد في الصيف فكل ذلك لا يجزئه.

وهذه النية واجبة وفرض في قول جماهير العلماء خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، والصحيح مذهب الجمهور؛ لقوله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] وجه الدلالة: أن الله أمر بإخلاص الدين والعبادة، ولا إخلاص إلا بنية، إذاً: النية واجبة، والغسل عبادة؛ إذاً: النية فيه واجبة، كذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات) فقد علق صحة الأعمال على النية والغسل من الجنابة عمل، فلا غسل إلا بنية.

(أن ينويه) هذا هو الأصل؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يغتسل فإنه يبتدئ أول شيء بنية القلب، ثم بعد ذلك يكون منه الفعل المأمور شرعاً.

حكم التسمية عند الغسل

قال رحمه الله: [ثم يسمي].

(ثم) للعطف مع التراخي، أي: يقول: باسم الله، وهذه التسمية استحبها بعض العلماء، ومن العلماء من قال بوجوبها في الغسل، وسيأتي الكلام عليها -إن شاء الله- وأن الصحيح: عدم وجوبها، ولكن قال بعض العلماء: تستحب التسمية في العبادات وفي مبتدئها؛ لإطلاق الشرع.

ويسمي إذا كان المكان مهيأ لذكر الله، كأن يكون في بركة أو يكون في حمام معد للاغتسال لا لقضاء الحاجة، أما لو كان المكان مهيأ لقضاء الحاجة فإنه لا يذكر اسم الله عز وجل فيه، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني كنت على حالة كرهت أن أذكر اسم الله عليها) فإذا امتنع أن يذكر اسم الله في حال حدثه فمن باب أولى أن يمتنع في مكان الحدث، ولذلك لا يسمي جهرة في أماكن قضاء الحاجة، وهذا هو المعهود شرعاً من عموم قوله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] واسم الله عز وجل لا شك أنه من أكبر الأشياء وأعظمها كما قال تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] فالإجلال لاسم الله عز وجل من شعائر الله، فلا يذكر اسم الله جهرة، ولكن يسمي في نفسه على قول بعض العلماء، أي: أنه يجري في نفسه ذكر التسمية دون أن يتلفظ باللسان.

محل غسل الكفين في الغسل

قال رحمه الله: [ويغسل يديه ثلاثاً وما لوثه].

أولاً: ينوي، ثم يسمي، ثم يغسل يديه ثلاثاً، واليدان مثنى يد، والمراد بهما: الكفان، واليد تطلق ويراد بها جميع اليد إلى المنكب، وقد يراد بها إلى المرفق، وقد يراد بها إلى الزندين، وأقل ما يصدق عليه اليدان: الكفين، وسمي الكف كفاً؛ لأنه تكف به الأشياء، فالمراد أن يغسل كفيه ثلاثاً، والمصنف هنا قال: (يغسل يديه ثلاثاً) ثم أجمل، والحقيقة أن غسل اليدين أو الكفين في الغسل من الجنابة له حالتان:

الحالة الأولى: غسل الكفين قبل تعميم البدن.

والحالة الثانية: غسل الكفين بعد غسل الفرج تهيأً للوضوء، فأما الحالة الأولى: وهي غسل الكفين عند الابتداء بالغسل، فقد ثبت في الصحيحين كما في حديث أم المؤمنين عائشة التصريح بهذا: (بدأ فغسل كفيه) وفي رواية مسلم : (يغسل كفيه) لكن ليس فيه التصريح بالتثليث، وفهم التثليث من مطلق هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الغسل كقوله: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً) وكذلك حديث حمران مولى عثمان عن عثمان ، وحديث عبد الله بن زيد رضي الله عن الجميع في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وكلهم ذكر التثليث قبل ابتداء الوضوء، أي: عند غسل الكفين في ابتداء الوضوء.

قال العلماء: التثليث مناسبته: أنك إذا أزلت الأذى بالغسلة الأولى، فالغسلة الثانية تبرئ الموضع، بمعنى: أنك ربما تغسل ويكون الشيء عالقاً باليد، فالغسل الثاني آكد في إزالة العين، والغسلة الثالثة آكد وأبلغ للاستبراء، فلذلك قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل ثلاثاً، ولكن لم يرد التصريح في حديث أم المؤمنين عائشة وميمونة في ابتداء الغسل، ولكن ورد التثليث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل ثلاثاً في حديث ميمونة لما غسل فرجه صلوات الله وسلامه عليه، فإنها قالت: (مرتين أو ثلاثاً)، على الشك لا على الجزم بالثلاث.

والغسل للكفين في ابتداء الغسل من الجنابة مناسبته -كما يقول العلماء- أن اليدين ناقلتان للماء ولما كان الماء هو الذي يقصد به الطهارة فينبغي أن يكون طهوراً، وينبغي أن تكون آلته محافظة على الطهورية، فإذا كانت اليد نظيفة بقي الماء على أصل الطهورية، وإذا كانت اليد ليست بنظيفة فإن ذلك أدعى لخروج الماء عن وصفه بالطهورية، خاصة وأن الكف تنقل ماءً يسيراً، ولذلك أُمر بغسلها قبل الوضوء لمن استيقظ من نومه، أما الغسلة الثانية للكفين فإنها تكون بعد غسل الفرج.

قال المصنف: (يغسل يديه ثلاثاً وما لوثه) اللوث يطلق بمعنى: التلطيخ، يقال: لوث الماء إذا لطخه، وقد يطلق بمعنى: المرض والعاهة في العقل، ومنه قولهم: اللوثة الحمق وذهاب العقل -نسأل الله السلامة والعافية- وقد يطلق بمعنى: حاجة الإنسان.

فالتلويث في قوله: (وما لوثه) يعني: ما أصاب يده من القذر، وهذا يدل على أن المراد بغسل الكفين ما يكون بعد إزالة الأذى عن الفرج، فكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبتدئ فيصب الماء على يمينه ثم يفرغ على يساره، وبعد غسل كفيه صلوات الله وسلامه عليه يفرغ بيمينه على يساره ويأخذ الإناء بيمينه ويفرغه على يساره، ثم يغسل فرجه صلوات الله وسلامه عليه ومواضع الأذى، كما في حديث ميمونة رضي الله عنها وأرضاها، فابتدأ بغسل الكفين ثم ثنى بغسل الأذى على الفرج وما جاوره كالفخذين ونحوهما.

ولما انتهى عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين من حديث ميمونة-: (من غسل فرجه وأزال الأذى، دلك يديه في الأرض دلكاً شديداً) كما قالت أم المؤمنين رضي الله عنها، ولذلك قال العلماء: يبتدئ بغسل الكفين، ثم يثني بالفرج، ثم يدلك يديه للغسلة الثانية، وهذه الغسلة الثانية آكد من الأولى، فإن الأولى قد تكون اليدان طاهرتين ولا يحتاج فيها إلى تجديد غسل، ولكن في الثانية لمكان الأذى وتلطخ اليدين بما هناك من الكدر ناسب أن يدلكها عليه الصلاة والسلام، قال العلماء: السنة لمن اغتسل في أرض ترابية أن يدلك يديه على الأرض الترابية، فالتراب يطهر يابساً أو مخلوطاً بالماء، أما يابساً فدليله: التيمم، وأما مخلوطاً بماء فدليله: حديث ولوغ الكلب، وقد ثبت ذلك طبياً، فناسب أن يدلك عليه الصلاة والسلام يده بالأرض، وورد في الحديث أنه ضرب بها الحائط، ولذلك قال بعض العلماء: إذا كانت الأرض صلبة وكان الحائط من طين فإنه يضرب بيديه الحائط.

وللعلماء في ضربه عليه الصلاة والسلام على الأرض وضربه الحائط في غسله من الجنابة وجهان:

الوجه الأول: أنها عبادة معللة تكون إذا وجدت علتها، بمعنى: أن الإنسان يضرب الحائط ويدلك الأرض إذا كان الحائط أو كانت الأرض ترابية أو من طين، لكن لو كانت الأرض صلبة وكان الحائط صلباً -كما هو موجود- فإنه على هذا القول تكون السنة الغسل بالصابون وما يحل محل الطين، قالوا: لأن العلة التنظيف، فكما أنه تحصل الطهارة بالطين فعند فقده تحصل بما يناسبه مثل الصابون.

الوجه الثاني: أنها عبادة، ويقتصر فيها على الصورة، فيكون وجود التطهير بالطين تبعاً لا أصلاً، وعلى هذا القول فإنه يسن للإنسان ولو كان الجدار أملس أن يضرب به يده -كما يقول بعض العلماء رحمة الله عليهم- وإذا كانت الأرض ليس فيها من فضلات النجاسة أو القذر فإنه يضرب يده أو يدلكها بها.

والصحيح: أنه عبادة معللة، فيضرب الجدار إذا كان من طين، وتدلك الأرض إذا كانت ترابية، وأما على حال اليوم فإنه لا يتأتى لقول أم المؤمنين: (دلك بيده الأرض دلكاً شديداً) والدلك الشديد لا يقصد به إلا الإزالة والتنظيف، ولذلك قالوا: إنها عبادة معللة، وهذا هو أصح الأوجه، ويكاد يكون قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم.

محل الوضوء عند الغسل وكيفيته

قال رحمه الله: [ويتوضأ]

إذا فرغ من غسل يديه وأنقاها بالطين أو بالصابون فإنه يتوضأ وضوءه للصلاة، ولكن يؤخر غسل رجليه، كما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها وأرضاها، قالت أم المؤمنين عائشة: (ثم توضأ وضوءه للصلاة) وذكرت مثلها أم المؤمنين ميمونة ، لكن صرحت بتأخيره لغسل رجليه، فمن العلماء من قال: يتوضأ وضوءاً كاملاً ويغسل رجليه، ومنهم من قال: يتوضأ ويؤخر غسل الرجلين، ومنهم من قال بالتفصيل، فقال: إن كان المكان طاهراً نقياً كالموجود الآن من البلاط، فإنه يتوضأ وضوءه للصلاة كاملاً، وإن كان المكان فيه طين فإنه يحتاج فيه إلى تجديد غسله لرجليه بعد غسله لبدنه مع تطاير الطين فقالوا: يؤخر غسل الرجلين حتى لا يكون ضرباً من الإسراف في استعماله للماء، ومنهم من فصل من وجه ثانٍ فقال: إن كان الماء كثيراً غسل رجليه، وإن كان قليلاً فإنه يؤخر غسل الرجلين على ظاهر حديث أم المؤمنين ميمونة .

والذي يظهر -والعلم عند الله- أن الأقوى والأشبه أن تأخير النبي صلى الله عليه وسلم لغسل الرجلين قصد به الأذى، وهذا يعرفه كل من اغتسل في مكانٍ ترابي، فإنه مهما فعل وغسل رجليه فإنه بمجرد أن يفيض الماء على بدنه فإن رذاذ الطين يتطاير على الرجل، وأيضاً ثبوت الرجلين على الطين يحتاج به إلى غسل جديد للرجلين، فالأشبه أنه أخر وضوءه عليه الصلاة والسلام لمكان الطين في الموضع.

الخلاف في الوضوء عند الغسل هل هو مقصود أم لا

المسألة الثانية: لو أن إنساناً أراد أن يتوضأ، فهل هذا الوضوء مقصود للغسل أو مقصود لذاته؟

للعلماء وجهان: منهم من قال: يتوضأ وضوءه للصلاة وهو عبادة مقصودة، أي: أنها طهارة مقصودة، ومنهم من قال: لا، وضوءه للصلاة لشرف أعضاء الوضوء، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما اغتسل من الجنابة وبدأ بالوضوء راعى فضل أعضاء الوضوء، وأقوى الوجهين القول الثاني: أنه توضأ لشرف أعضاء الوضوء فقدمها على غسل سائر البدن، يشهد لذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـأم عطية في غسلها لابنته غسل الموت قال: (ابدأن بميامينها وبأعضاء الوضوء منها) وذلك لما أمر بتوضئتها، يعني: إعطاء أعضاء الوضوء الأسبقية، ففهمنا أن هذا لشرف أعضاء الوضوء وليس وضوءاً مقصوداً.

فائدة الخلاف: إن قلنا: إنه وضوء مقصود أو وضوء غير مقصود تتفرع عليه مسائل، فمن العلماء الذين قالوا: إنه وضوء مقصود، قالوا: إن خروج المني يؤدي إلى الحدث الأصغر والأكبر فيكون وضوءه لرفع الحدث الأصغر ويكون غسله لرفع الحدث الأكبر، فيصبح خروج المني يؤدي إلى انتقاض الطهارة الصغرى والكبرى، وفائدة معرفة ذلك في القياس، فلو أن إنساناً خرجت منه حصاة فالذين يقولون: إن خروج الحصاة يوجب انتقاض الوضوء يقولون: الحصاة طاهرة، فتنقض الوضوء كما أن المني طاهر وينقض الوضوء، ولذلك وجب الوضوء والغسل.

فيستفاد مما سبق في الأقيسة في اعتبار الأصل الشرعي، فإذا اعتبرت أن هذا الوضوء للطهارة الصغرى وأن المجنب بخروج المني عليه طهارتان فيتفرع منها: أن خروج الطاهرات يوجب انتقاض الحدث كما ذكرنا في باب نواقض الوضوء.

إيصال الماء إلى أصول الشعر في الغسل

قال رحمه الله: [ويحثي على رأسه ثلاثاً ترويه]

ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعد أن انتهى من وضوئه حثا على رأسه ثلاث حثيات، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وحديث ميمونة -وهذان الحديثان يعتبران أصلاً عند العلماء رحمة الله عليهم في باب الغسل من الجنابة- وقد ذكرت ميمونة التعميم وذكرت عائشة رضي الله عنها كذلك التعميم في موضع والتفصيل في موضع ثانٍ، فقد بينت أن هذه الثلاث حثيات كانت من النبي صلى الله عليه وسلم؛ الأولى منها: لشقه الأيمن صلوات الله وسلامه عليه، والثانية: لشقه الأيسر، ولذلك فالسنة لمن توضأ في الغسل من الجنابة أن يبدأ فيأخذ حثية إلى شق رأسه الأيمن، فيحثي عليه، ويروي بهذه الحثية الأولى شعر رأسه قالت أم المؤمنين عائشة: (حتى إذا ظن أنه روى أصول شعره).

فالمقصود من هذه الثلاث حثيات: أن الشعر يكون كثيفاً، وخاصة أن شعر النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيفاً، وربما إذا رجّله وصل إلى منكبه، وكانوا في القديم قليلي الحلاقة، ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج قال: (سيماهم التحليق) فكانت الحلاقة قليلة في ذلك الزمان، فكان الإنسان إذا اغتسل من الجنابة يخاف من الشعر؛ لأن إنقاء البشرة مقصود في الجنابة، ولذلك قال علي رضي الله عنه: (فمن ثم عاديت شعري)، يعني: خوفاً من الجنابة عاديت الشعر، فكان يحلق رضي الله عنه ويكثر منه، وكل ذلك خوفاً من التقصير في تروية أصول الشعر أو البشرة في الغسل من الجنابة.

فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ الحفنة الأولى ويروي بها أصول الشعر، فإذا بلغ الماء أصول الشعر في الشق الأيمن والشق الأيسر حثا عليه الصلاة والسلام الحثية الثالثة التي يقصد بها التعميم، فإذا عمم رأسه تفرغ لبدنه، قالت أم المؤمنين رضي الله عنها: (ثم أفاض على جسده) ، وفي رواية: (على سائر جسده الماء).

قال بعض العلماء: يستحب قبل التعميم أن يتفقد الإنسان المواضع الخفية في البدن كالإبطين فيبدأ بإيصال الماء إليها، كما أوصل عليه الصلاة والسلام الماء لشئون رأسه؛ لأنه عند تعميم الماء لسائر الجسد قد يغفل عن هذه المواضع، ولذلك قالوا: تفقد عليه الصلاة والسلام شعر رأسه، وهذا أصل في تفقد المواضع التي قد تكون بعيدة عن الماء إذا عمم.

تعميم البدن ثلاثاً أثناء الغسل

قال رحمه الله: [ويعم بدنه غسلاً ثلاثاً]

(يعم البدن) بمعنى: أن يصب على جسده الماء صبة يعممه بها، وهذا التعميم قال فيه عليه الصلاة والسلام لـأم سلمة : (ثم تفيضين الماء على جسدكِ فإذا أنتِ قد طهرتِ) والإفاضة: التعميم، والأصل في تعميم البدن قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6] وكذلك حديث أم سلمة (ثم تفيضين الماء على جسدك) وقول عائشة رضي الله عنها: ثم غسل سائر جسده، فيعمم البدن بالماء.

وقال المصنف: (ثلاثاً) أي: ثلاث مرات، وهذا فيه خلاف بين العلماء، فمن أهل العلم من قال: السنة أن يعم البدن بغسلة واحدة، ولا يزيد إلى الثلاث، وهو قول طائفة من السلف رحمة الله عليهم، وممن روي عنه هذا القول الإمام مالك ، وكذلك جاءت عن الإمام أحمد رواية بهذا، وشددوا في الغسلة الثانية والثالثة، وقالوا: لأنه يفعلها معتقداً الفضل ولم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أنه ثلث في الوضوء، ومن ثم قالوا: التثليث في الغسل بدعة، وشددوا في أن يغسل ثلاثاً بقصد العبادة.

لكن لو أنه غسل الغسلة الأولى قاصداً رفع الجنابة، ثم غسل المرة الثانية والثالثة للمبالغة في التنظيف كما هو الحال الآن، فالإنسان قد يغتسل بالصابون فيحتاج إلى صبة ثانية وثالثة، فلا حرج؛ لأنها خرجت إلى قصد النظافة لا إلى قصد العبادة وفرق بين قصد العبادة وبين قصد النظافة، أما لو ثلث بدنه قاصداً العبادة فهذه بدعة في قول طائفة من السلف كما ذكرنا، وهذا القول هو الصحيح، فإن الناظر في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في غسله كلها يجد أنها نصت على أنه أفاض إفاضة واحدة عليه الصلاة والسلام، ولم يثنِ ولم يثلث -بأبي وأمي عليه الصلاة والسلام- ولو كان الفضل في التثنية والتثليث لما تركه عليه الصلاة والسلام، وهناك رواية عن الإمام أحمد -وهو قول لبعض الشافعية رحمة الله عليهم وبعض العلماء- تقول: إنه يستحب التثليث في الغسل، ولكن الاستحباب حكم شرعي يحتاج إلى دليل، ولا دليل.

حكم الدلك عند الغسل

قال رحمه الله: [ويدلكه]

أي: يدلك البدن مبالغة في الإنقاء والتطهير وإيصال الماء إلى البدن، والدلك للعلماء فيه قولان: فمن أهل العلم رحمة الله عليهم من يقول: الدلك واجب، ومن اغتسل ولم يدلك بدنه لم يصح غسله، والقول الثاني: أن الدلك مستحب وليس بواجب، وهو قول الجمهور، والقول الأول لـمالك رحمة الله على الجميع، والصحيح: مذهب الجمهور، وهو أن الدلك ليس بواجب وإنما هو مستحب، والدليل على عدم الوجوب ما ثبت في الصحيحين من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: (إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثيات) انظر قوله: (إنما يكفيكِ -أي: يجزئك) وهذا الإجزاء لا يكون إلا في الواجبات، (إنما يكفيكِ أن تحثي على رأسكِ ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء على جسدكِ فإذا أنتِ قد طهرتِ -وفي رواية: فإذا أنتِ تطهرين-) ووجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالتعميم ولم يبين لها وجوب الدلك وقال لها: (تفيضين) والإفاضة: الصب، ولذلك صح قول من قال: إن المقصود صب الماء دون الدلك، ولذلك يظهر أن هذا القول هو أعدل الأقوال وأولاها بالصواب.

لكن الإمام مالك رحمة الله عليه انتزع وجوب الدلك من حديث أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل بالصاع، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربعة من الرجال، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، وكان عليه الصلاة والسلام وسطاً من الرجال، فالإمام مالك يقول: لا يعقل أن الصاع يغسل هذا القدر إلا بالدلك، وهو من ناحية الاستنباط صحيح، والأعدل أن يقال: الدلك ليس بواجب، لكن إذا كان الماء قليلاً وتوقف وصول الماء لجميع البدن على الدلك فإنه واجب من جهة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).

والاستثناء بالصور المخصوصة لا يقتضي التعميم في جميع الأفراد، وبناءً على ذلك: فإنه ينظر في الماء الذي تغتسل به، فإن كان هذا الماء تستطيع إيصاله إلى جميع البدن دون أن يكون منك دلك فإن هذا هو القدر الذي أوجب الله عليك، وإن كان هذا الماء لا تستطيع إيصاله إلى جميع البدن إلا إذا دلكت فحينئذٍ يلزمك الدلك من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لا أنه واجب أصالة، وهذا هو أعدل الأقوال، وعلى قول المالكية بالوجوب يحصل إشكال في الموضع الذي لا تستطيع أن توصل إليه يدك، كأن يكون مثلاً: وراء الظهر، فقالوا: إذا شق عليه الدلك استخدم الليفة وحك بها ظهره.

وصل لما عسر بالمنديل ونحوه كالحبل والتوكيل

أي: الذي يعسر عليك الوصول إليه باليد فإنك تستخدم واسطة، حتى لو تأخذ قطعة من القماش وتضعها في خشبة وتحك بها الظهر؛ لأنهم يرونه واجباً على جميع أجزاء البدن، والذي يظهر أن الواجب هو تعميم البدن، فلو أنك انغمست في بركة دون أن تمر يدك على سائر البدن أجزأك ذلك.

التيامن أثناء الغسل

قال رحمه الله: [ويتيامن]

يعني: يبدأ باليمين قبل اليسار؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في غسل الميت: (ابدأن بميامنها وبأعضاء الوضوء منها)

قال رحمه الله: [ويغسل قدميه مكاناً آخر]. هذا الذي سبقت الإشارة إليه، وقلنا: التفصيل هو أعدل الأقوال، فإن كان الموضع نظيفاً فلا حاجة إلى تأخير غسل الرجلين، وإن كان غير نظيف فإنه يؤخر غسل رجليه إلى آخر الغسل، إصابة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

(أن ينويه) يعني: أن ينوي الغسل، صورة ذلك: أن يدخل الإنسان مكان الاغتسال وفي نيته أن يعمم بدنه لرفع الجنابة، وهكذا المرأة لإزالة الجنابة، فإذا حصل هذا القصد فقد نوى العبادة وقصدها تقرباً لله عز وجل، وخرج من هذا أن ينوي فعل الشيء لغرض غير وجه الله، مثل أن يدخل مستحمه للتبرد أو للسباحة، فلو غسل جسمه كاملاً للسباحة لم يكن غسلاً شرعياً، وإنما هو غسل عادة وليس بغسل عبادة، ولذلك قالوا: النية تفرق بين العادة والعبادة.

فقوله: (أن ينوي الغسل) أي: ينوي رفع الحدث، فإذا نواه فقد أجزأه، والأصل في النية أن تكون مقاربة لزمان الفعل فلو أنه قال: أريد أن أغتسل من الجنابة وجلس من الساعة الثانية ظهراً إلى الساعة الثالثة، ثم عزبت عنه هذه النية، ثم دخل إلى مستحمه وسبح وقد عزبت عنه النية، فنقول: إن هذا لا يجزئ، إنما المعتبر أن تكون النية مصاحبة، قال بعض العلماء: حتى ولو في طريقه إلى السباحة جرى في نفسه أن يغتسل من الجنابة أجزأه؛ لكن لو كانت النية للنظافة أو للتبرد في الصيف فكل ذلك لا يجزئه.

وهذه النية واجبة وفرض في قول جماهير العلماء خلافاً للإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، والصحيح مذهب الجمهور؛ لقوله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5] وجه الدلالة: أن الله أمر بإخلاص الدين والعبادة، ولا إخلاص إلا بنية، إذاً: النية واجبة، والغسل عبادة؛ إذاً: النية فيه واجبة، كذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات) فقد علق صحة الأعمال على النية والغسل من الجنابة عمل، فلا غسل إلا بنية.

(أن ينويه) هذا هو الأصل؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يغتسل فإنه يبتدئ أول شيء بنية القلب، ثم بعد ذلك يكون منه الفعل المأمور شرعاً.

قال رحمه الله: [ثم يسمي].

(ثم) للعطف مع التراخي، أي: يقول: باسم الله، وهذه التسمية استحبها بعض العلماء، ومن العلماء من قال بوجوبها في الغسل، وسيأتي الكلام عليها -إن شاء الله- وأن الصحيح: عدم وجوبها، ولكن قال بعض العلماء: تستحب التسمية في العبادات وفي مبتدئها؛ لإطلاق الشرع.

ويسمي إذا كان المكان مهيأ لذكر الله، كأن يكون في بركة أو يكون في حمام معد للاغتسال لا لقضاء الحاجة، أما لو كان المكان مهيأ لقضاء الحاجة فإنه لا يذكر اسم الله عز وجل فيه، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني كنت على حالة كرهت أن أذكر اسم الله عليها) فإذا امتنع أن يذكر اسم الله في حال حدثه فمن باب أولى أن يمتنع في مكان الحدث، ولذلك لا يسمي جهرة في أماكن قضاء الحاجة، وهذا هو المعهود شرعاً من عموم قوله تعالى: ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ [الحج:32] واسم الله عز وجل لا شك أنه من أكبر الأشياء وأعظمها كما قال تعالى: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ [العنكبوت:45] فالإجلال لاسم الله عز وجل من شعائر الله، فلا يذكر اسم الله جهرة، ولكن يسمي في نفسه على قول بعض العلماء، أي: أنه يجري في نفسه ذكر التسمية دون أن يتلفظ باللسان.

قال رحمه الله: [ويغسل يديه ثلاثاً وما لوثه].

أولاً: ينوي، ثم يسمي، ثم يغسل يديه ثلاثاً، واليدان مثنى يد، والمراد بهما: الكفان، واليد تطلق ويراد بها جميع اليد إلى المنكب، وقد يراد بها إلى المرفق، وقد يراد بها إلى الزندين، وأقل ما يصدق عليه اليدان: الكفين، وسمي الكف كفاً؛ لأنه تكف به الأشياء، فالمراد أن يغسل كفيه ثلاثاً، والمصنف هنا قال: (يغسل يديه ثلاثاً) ثم أجمل، والحقيقة أن غسل اليدين أو الكفين في الغسل من الجنابة له حالتان:

الحالة الأولى: غسل الكفين قبل تعميم البدن.

والحالة الثانية: غسل الكفين بعد غسل الفرج تهيأً للوضوء، فأما الحالة الأولى: وهي غسل الكفين عند الابتداء بالغسل، فقد ثبت في الصحيحين كما في حديث أم المؤمنين عائشة التصريح بهذا: (بدأ فغسل كفيه) وفي رواية مسلم : (يغسل كفيه) لكن ليس فيه التصريح بالتثليث، وفهم التثليث من مطلق هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الغسل كقوله: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثاً) وكذلك حديث حمران مولى عثمان عن عثمان ، وحديث عبد الله بن زيد رضي الله عن الجميع في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وكلهم ذكر التثليث قبل ابتداء الوضوء، أي: عند غسل الكفين في ابتداء الوضوء.

قال العلماء: التثليث مناسبته: أنك إذا أزلت الأذى بالغسلة الأولى، فالغسلة الثانية تبرئ الموضع، بمعنى: أنك ربما تغسل ويكون الشيء عالقاً باليد، فالغسل الثاني آكد في إزالة العين، والغسلة الثالثة آكد وأبلغ للاستبراء، فلذلك قالوا: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل ثلاثاً، ولكن لم يرد التصريح في حديث أم المؤمنين عائشة وميمونة في ابتداء الغسل، ولكن ورد التثليث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه غسل ثلاثاً في حديث ميمونة لما غسل فرجه صلوات الله وسلامه عليه، فإنها قالت: (مرتين أو ثلاثاً)، على الشك لا على الجزم بالثلاث.

والغسل للكفين في ابتداء الغسل من الجنابة مناسبته -كما يقول العلماء- أن اليدين ناقلتان للماء ولما كان الماء هو الذي يقصد به الطهارة فينبغي أن يكون طهوراً، وينبغي أن تكون آلته محافظة على الطهورية، فإذا كانت اليد نظيفة بقي الماء على أصل الطهورية، وإذا كانت اليد ليست بنظيفة فإن ذلك أدعى لخروج الماء عن وصفه بالطهورية، خاصة وأن الكف تنقل ماءً يسيراً، ولذلك أُمر بغسلها قبل الوضوء لمن استيقظ من نومه، أما الغسلة الثانية للكفين فإنها تكون بعد غسل الفرج.

قال المصنف: (يغسل يديه ثلاثاً وما لوثه) اللوث يطلق بمعنى: التلطيخ، يقال: لوث الماء إذا لطخه، وقد يطلق بمعنى: المرض والعاهة في العقل، ومنه قولهم: اللوثة الحمق وذهاب العقل -نسأل الله السلامة والعافية- وقد يطلق بمعنى: حاجة الإنسان.

فالتلويث في قوله: (وما لوثه) يعني: ما أصاب يده من القذر، وهذا يدل على أن المراد بغسل الكفين ما يكون بعد إزالة الأذى عن الفرج، فكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبتدئ فيصب الماء على يمينه ثم يفرغ على يساره، وبعد غسل كفيه صلوات الله وسلامه عليه يفرغ بيمينه على يساره ويأخذ الإناء بيمينه ويفرغه على يساره، ثم يغسل فرجه صلوات الله وسلامه عليه ومواضع الأذى، كما في حديث ميمونة رضي الله عنها وأرضاها، فابتدأ بغسل الكفين ثم ثنى بغسل الأذى على الفرج وما جاوره كالفخذين ونحوهما.

ولما انتهى عليه الصلاة والسلام -كما في الصحيحين من حديث ميمونة-: (من غسل فرجه وأزال الأذى، دلك يديه في الأرض دلكاً شديداً) كما قالت أم المؤمنين رضي الله عنها، ولذلك قال العلماء: يبتدئ بغسل الكفين، ثم يثني بالفرج، ثم يدلك يديه للغسلة الثانية، وهذه الغسلة الثانية آكد من الأولى، فإن الأولى قد تكون اليدان طاهرتين ولا يحتاج فيها إلى تجديد غسل، ولكن في الثانية لمكان الأذى وتلطخ اليدين بما هناك من الكدر ناسب أن يدلكها عليه الصلاة والسلام، قال العلماء: السنة لمن اغتسل في أرض ترابية أن يدلك يديه على الأرض الترابية، فالتراب يطهر يابساً أو مخلوطاً بالماء، أما يابساً فدليله: التيمم، وأما مخلوطاً بماء فدليله: حديث ولوغ الكلب، وقد ثبت ذلك طبياً، فناسب أن يدلك عليه الصلاة والسلام يده بالأرض، وورد في الحديث أنه ضرب بها الحائط، ولذلك قال بعض العلماء: إذا كانت الأرض صلبة وكان الحائط من طين فإنه يضرب بيديه الحائط.

وللعلماء في ضربه عليه الصلاة والسلام على الأرض وضربه الحائط في غسله من الجنابة وجهان:

الوجه الأول: أنها عبادة معللة تكون إذا وجدت علتها، بمعنى: أن الإنسان يضرب الحائط ويدلك الأرض إذا كان الحائط أو كانت الأرض ترابية أو من طين، لكن لو كانت الأرض صلبة وكان الحائط صلباً -كما هو موجود- فإنه على هذا القول تكون السنة الغسل بالصابون وما يحل محل الطين، قالوا: لأن العلة التنظيف، فكما أنه تحصل الطهارة بالطين فعند فقده تحصل بما يناسبه مثل الصابون.

الوجه الثاني: أنها عبادة، ويقتصر فيها على الصورة، فيكون وجود التطهير بالطين تبعاً لا أصلاً، وعلى هذا القول فإنه يسن للإنسان ولو كان الجدار أملس أن يضرب به يده -كما يقول بعض العلماء رحمة الله عليهم- وإذا كانت الأرض ليس فيها من فضلات النجاسة أو القذر فإنه يضرب يده أو يدلكها بها.

والصحيح: أنه عبادة معللة، فيضرب الجدار إذا كان من طين، وتدلك الأرض إذا كانت ترابية، وأما على حال اليوم فإنه لا يتأتى لقول أم المؤمنين: (دلك بيده الأرض دلكاً شديداً) والدلك الشديد لا يقصد به إلا الإزالة والتنظيف، ولذلك قالوا: إنها عبادة معللة، وهذا هو أصح الأوجه، ويكاد يكون قول جمهور العلماء رحمة الله عليهم.

قال رحمه الله: [ويتوضأ]

إذا فرغ من غسل يديه وأنقاها بالطين أو بالصابون فإنه يتوضأ وضوءه للصلاة، ولكن يؤخر غسل رجليه، كما ثبت في الحديث الصحيح عن أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها وأرضاها، قالت أم المؤمنين عائشة: (ثم توضأ وضوءه للصلاة) وذكرت مثلها أم المؤمنين ميمونة ، لكن صرحت بتأخيره لغسل رجليه، فمن العلماء من قال: يتوضأ وضوءاً كاملاً ويغسل رجليه، ومنهم من قال: يتوضأ ويؤخر غسل الرجلين، ومنهم من قال بالتفصيل، فقال: إن كان المكان طاهراً نقياً كالموجود الآن من البلاط، فإنه يتوضأ وضوءه للصلاة كاملاً، وإن كان المكان فيه طين فإنه يحتاج فيه إلى تجديد غسله لرجليه بعد غسله لبدنه مع تطاير الطين فقالوا: يؤخر غسل الرجلين حتى لا يكون ضرباً من الإسراف في استعماله للماء، ومنهم من فصل من وجه ثانٍ فقال: إن كان الماء كثيراً غسل رجليه، وإن كان قليلاً فإنه يؤخر غسل الرجلين على ظاهر حديث أم المؤمنين ميمونة .

والذي يظهر -والعلم عند الله- أن الأقوى والأشبه أن تأخير النبي صلى الله عليه وسلم لغسل الرجلين قصد به الأذى، وهذا يعرفه كل من اغتسل في مكانٍ ترابي، فإنه مهما فعل وغسل رجليه فإنه بمجرد أن يفيض الماء على بدنه فإن رذاذ الطين يتطاير على الرجل، وأيضاً ثبوت الرجلين على الطين يحتاج به إلى غسل جديد للرجلين، فالأشبه أنه أخر وضوءه عليه الصلاة والسلام لمكان الطين في الموضع.

المسألة الثانية: لو أن إنساناً أراد أن يتوضأ، فهل هذا الوضوء مقصود للغسل أو مقصود لذاته؟

للعلماء وجهان: منهم من قال: يتوضأ وضوءه للصلاة وهو عبادة مقصودة، أي: أنها طهارة مقصودة، ومنهم من قال: لا، وضوءه للصلاة لشرف أعضاء الوضوء، يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما اغتسل من الجنابة وبدأ بالوضوء راعى فضل أعضاء الوضوء، وأقوى الوجهين القول الثاني: أنه توضأ لشرف أعضاء الوضوء فقدمها على غسل سائر البدن، يشهد لذلك ما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـأم عطية في غسلها لابنته غسل الموت قال: (ابدأن بميامينها وبأعضاء الوضوء منها) وذلك لما أمر بتوضئتها، يعني: إعطاء أعضاء الوضوء الأسبقية، ففهمنا أن هذا لشرف أعضاء الوضوء وليس وضوءاً مقصوداً.

فائدة الخلاف: إن قلنا: إنه وضوء مقصود أو وضوء غير مقصود تتفرع عليه مسائل، فمن العلماء الذين قالوا: إنه وضوء مقصود، قالوا: إن خروج المني يؤدي إلى الحدث الأصغر والأكبر فيكون وضوءه لرفع الحدث الأصغر ويكون غسله لرفع الحدث الأكبر، فيصبح خروج المني يؤدي إلى انتقاض الطهارة الصغرى والكبرى، وفائدة معرفة ذلك في القياس، فلو أن إنساناً خرجت منه حصاة فالذين يقولون: إن خروج الحصاة يوجب انتقاض الوضوء يقولون: الحصاة طاهرة، فتنقض الوضوء كما أن المني طاهر وينقض الوضوء، ولذلك وجب الوضوء والغسل.

فيستفاد مما سبق في الأقيسة في اعتبار الأصل الشرعي، فإذا اعتبرت أن هذا الوضوء للطهارة الصغرى وأن المجنب بخروج المني عليه طهارتان فيتفرع منها: أن خروج الطاهرات يوجب انتقاض الحدث كما ذكرنا في باب نواقض الوضوء.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3698 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3616 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3438 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3370 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3336 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3317 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3267 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3223 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3183 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3163 استماع