فقه الأسرة - الحقوق المشتركة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فحديثنا اليوم إن شاء الله سيكون عن الحقوق المشتركة، وهي الحقوق التي أوجبها الله على كلٍ من الزوج والزوجة، ومن عدل الله تبارك وتعالى، أن جعل هناك حقوقاً بين الزوجين، يشترك كلٌ منهما فيها، ومن أعظم هذه الحقوق حقان، الحق الأول: حق العشرة بالمعروف، والحق الثاني: حق المبيت والقسم.

حق المعاشرة بالمعروف

فأما حق العشرة بالمعروف، فإنه لا سعادة للمسلمين ولا طمأنينة لهم في بيوتهم إلا إذا قامت على العشرة بالمعروف، وهذا الحق أمر الله عز وجل به؛ لما فيه من صلاح أمر الزوج والزوجة، ولما فيه من السعادة لهما، وهو الاختبار الحقيقي للزوج وللزوجة، قال الله في كتابه المبين: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، ولذلك قال العلماء: المعاشرة بالمعروف حقٌ واجب، يأثم تاركه، ويثاب فاعله، وقال الله عز وجل: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:2] والمعاشرة بالمعروف، تستلزم أموراً لا بد منها، وهذه الأمور تكون في قلب الإنسان، فيما بينه وبين الله، وتكون في قوله وكلماته وما يصدر منه من عباراته، وتكون منه في تصرفاته وأفعاله، فهناك ثلاثة جوانب للمعاشرة بالمعروف.

الأول -وهو أهمها-: النية الصالحة، فلن يستطيع الرجل أن يعاشر امرأته بالمعروف ولن تستطيع المرأة أن تعاشر زوجها بالمعروف إلا إذا غيّب كلٌ منهما نية صالحة، وهذا هو الذي عناه الله عز وجل بقوله: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة:231]، فإذا أراد الإنسان أن يُمسك زوجه، فلتكن نيته صالحةً تجاهها، ولذلك قال العلماء: ما غيّب الإنسان في سريرته وقلبه أمراً -خيراً كان أو شراً- إلا أظهره الله في فلتات لسانه، فالذي ينوي الخير لامرأته ويتزوج المرأة أو يردها إلى عصمته وفي قلبه أن يحسن وأن يكرم وأن يعاشر بمعروف وفّقه الله وسدده، قال تعالى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا [الأنفال:70]، فالله إذا اطلع على قلب الرجل واطلع على قلب المرأة ووجد كلاً منهما يبيّت النية الصالحة وفّق الله كلاً منهما في ظاهره وتصرفاته وأفعاله، لكي يكون منه الخير، فأول ما يوصى به من أراد أن يعاشر بالمعروف: النية الصالحة، وكان بعض العلماء يقول: ينبغي للزوج أن يجدد نيته كل يوم، حتى يُعظِم الله أجره وثوابه، خاصةً إذا كانت المرأة صالحة، أو كانت ذا حقٍ على الإنسان كقريبته ونحو ذلك، فيُغيِّب في قلبه نية الخير لها، وإذا غيّب الخير أظهره الله في أقواله وأفعاله، وهكذا المرأة تغيب في قلبها نية الخير للزوج، وما إن تتغير هذه النية حتى يغير الله ما بالزوجين إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، فإذا غيّر الزوج أو الزوجة نيتهما غير الله حالهما من الخير إلى الشر ومن الحسن إلى الأسوأ، ولذلك كل من أصابته مصيبة بينه وبين أهله فلينظر إلى نيته وقلبه، فالأصل في العشرة بالمعروف أنه ينبعث من نية صالحة ومن نيةٍ طيبة ومن قلبٍ يغيّب الخير حتى تظهر الآثار على الجوارح، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله).

الأمر الثاني للعشرة بالمعروف: قول الخير ، فكما أن الإنسان ينبغي أن يغيّب في قلبه النية الطيبة حتى يعاشر بالمعروف ينبغي أن يكون قوله موافقاً لمرضاة الله عز وجل، قال بعض العلماء: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] المعروف: كل ما وافق شرع الله عز وجل، والمنكر: كل ما خالف شرع الله، فإذا أراد أن يعاشر زوجته بالمعروف، فعليه أن يتقي الله فيما يقول، وكذلك على المرأة أن تتقي الله فيما تقول، والأصل الذي قرره كتاب الله وقررته سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ينبغي على كل مؤمنٍ ومؤمنة أن يحفظ لسانه، وأن يقول الخير، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت)، فمن دلائل الإيمان بالله عز وجل حفظ اللسان، واستقامة اللسان حينما يخاطب الناس على العموم وحينما يخاطب الأهل على الخصوص، والله تعالى أوصى المؤمنين -أوصى من قبلنا، ووصيته لمن قبلنا وصيةٌ لنا- فقال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] فأمرنا إذا تكلمنا وإذا نطقنا أن نقول الحسن الذي يرضيه سبحانه؛ لأن القول الحسن يُحسن إلى صاحبه في الدنيا والآخرة، والقول السيئ يسيء إلى صاحبه في الدنيا والآخرة.

الحلم زينٌ والسكوت سلامةٌ فإذا نطقت فلا تكن مهذارا

ما إن ندمت على السكوت مرةٍ ولقد ندمت على الكلام مرارا

فالكلمة إذا خرجت من اللسان لا تعود، وإذا خرجت جارحةً قاسية أدمت القلوب وأحدثت فيها من الفساد ومن تغيُّر الإلفة والمحبة ما الله به عليم؛ ولذلك أوصى الله بحفظ اللسان في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل العلماء المحاور التي تكون بها العشرة بالمعروف في الأقوال بين الزوجين في أحوال:

الأول: في النداء، إذا نادى الزوج الزوجة، وإذا نادت الزوجة زوجها.

الثاني: في الطلب عند الحاجة، تطلب منه أو يطلب منها.

والثالث: عند المحاورة، والكلام، والحديث، والمباسطة.

والرابع: عند الخلاف والنقاش.

الحالة الأولى: عند النداء. إذا نادت المرأة بعلها فإنه ينبغي لكل من الزوجين أن يحسن النداء، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينادي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فيقول: (يا عائش!) قال العلماء: إن هذا اللفظ يدل على الإكرام والملاطفة، وحسن التبعُّل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأهله، فهذا منهجٌ للمسلم إذا نادى زوجه، أن يجعل في ندائه من الكلمات ما ينبئ عن شيءٍ من المحبة والملاطفة، فالغلظة والوحشية في النداء بأسلوب القسر والقهر من الرجل أو بأسلوب السخرية والتهكم من المرأة تفسد المحبة، وتقطع أواصر الألفة بين الزوج والزوجة، فتتخير الزوجة أحب الأسماء إلى زوجها، ويتخير الزوج أحب الأسماء لزوجه، ويكون كما قال عمر : (إن مما يبعث المودة والمحبة أن ينادي المسلم أخاه بأحب الأسماء إليه)، فهي إحدى الثلاث التي تزيد من ود المسلم لأخيه المسلم، فكيف بالزوجة مع زوجها؟! فمن الأخطاء أن يختار الزوج لزوجته كلمة يجرحها بها، ويجعلها طريقاً للتعيير والانتقاص منها، ومن الأخطاء كذلك أن الزوجة تختار لزوجها كلمة تنتقصه أو تحقِّره بها، وكان بعض العلماء يقول: الأفضل ألا تناديه وألا يناديها بالاسم المجرد، فمن أكرم ما يكون في النداء النداء بالكنية، فهذا من أفضل ما يكون. وقال العلماء: إنه ما من زوج يألف ويعتاد نداء زوجته بالملاطفة إلا قابلته المرأة بمثل ذلك وأحسن، فإن النساء جبلن على الملاطفة، وجبلت على حب الدعة والرحمة والألفة، فإذا قابلها الزوج بذلك قابلته بما هو أحسن وأفضل.

الحالة الثانية: عند الطلب. إذا خاطب الرجل امرأته عند الطلب وأراد منها أمراً، يطلب ذلك منها بأسلوبٍ لا يشعرها بالخدمة والإذلال والامتهان والانتقاص، والمرأة إذا طلبت من بعلها شيئاً لا تجحفه ولا تؤذيه ولا تضره، ولا تختار الكلمات والألفاظ التي تقلقه وتزعجه، فهذا مما يحفظ اللسان، ويعين على العشرة بالمعروف في الكلمات، كذلك أيضاً قال صلى الله عليه وآله وسلم لأم المؤمنين رضي الله عنها، وهو في المسجد: (ناوليني الخُمْرَة، قالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك) فانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم، يسأل حاجته من أم المؤمنين، فلما اعتذرت، اعتذرت بالعذر الشرعي، وما قالت: لا أستطيع إبهاماً، أو معللة عدم استطاعتها بشيءٍ مجهول، وإنما قالت: إني حائض، فبماذا تأمرني؟ وماذا تريد؟ وكيف أفعل؟ فقال: (إن حيضتك ليست في يدك)، أي إذا ناولتينيها فإن دخول اليد ليس كدخول الكل. الشاهد: الملاطفة في النداء والطلب وعند الحاجة، وقد تقع المشاكل الزوجية بكثرة الحوائج، ذكر بعض العلماء: أن المرأة إذا أثقل عليها الزوج بالحوائج، وكان أسلوبه في الطلب مزعجاً مقلقاً، فإن هذا من أهم الأسباب التي تفسد المودة وتفسد المحبة؛ لأن المرأة تشعر وكأنها خادمة وكأنها ذليلةٌ في بيت زوجها، ومما أوصى به الحكماء والعقلاء، بل أوصى به قبل ذلك رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم، المكافأة عند الطلب ولو بالكلمات، فالزوج إذا احتاج من امرأته شيئاً وطلبها وجاءته بالشيء قابلها بالكلمة الطيبة، من الدعاء لها بالخير، والدعاء أن يبارك الله فيها، فالمرأة إذا وجدت أن معروفها يُشكر وأن خيرها يُذكر ولا يُكفر حمدت ذلك من بعلها، ونشطت للإحسان إليه والقيام بأمره وشأنه، بل كان ذلك معيناً لها على البقاء على العشرة بالمعروف.

الحالة الثالثة: حالة الحديث والمباسطة، فلا ينبغي للمرأة ولا ينبغي للرجل أن يُحدِّث كلٌ منهما الآخر في وقتٍ لا يتناسبُ فيه الحديث؛ ولذلك ذكر بعض أهل العلم أن من الأذية بالقول أن تتخير المرأة ساعات التعب والنصب لمحادثة الزوج، أو يتخير الزوج ساعات التعب والنصب لمحادثة زوجته، فهذا كله مما يحدث السآمة والملل، ويخالف العشرة بالمعروف التي أمر الله عز وجل بها، وقالوا: إذا باسط الرجل امرأته فليتخير أحسن الألفاظ، وإذا قص لها تخير أحسن القصص وأفضلها، مما يحسن وقعه ويطيب أثره.

الحالة الرابعة: عند الخصومة والنزاع، فمن العشرة بالمعروف إذا وقع الخلاف بين الرجل والمرأة أن يحدد الخلاف بينه وبين امرأته، وأن يبين لها الخطأ إن أخطأت بأسلوبٍ بعيدٍ عن التعنيف والتقريع إذا أراد أن يقرِّرها، وبعد أن تقر وتعترف إن شاء وبخها وإن شاء عفا عنها، أما أن يبادرها بالهجوم مباشرة قبل أن يبين لها خطأها فإن هذا مما يقطع الألفة والمحبة ويمنع من العشرة بالمعروف؛ لأنها تحس وكأنها مظلومة، والأفضل والأكمل: أن الرجل إذا عتب على امرأته شيئاً أن يتلطف في بيان خطئها، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم متى تكون أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها راضيةً عنه ومتى تكون ساخطة، فإن كانت راضيةً عنه قالت: (ورب محمد)، وإن كان في نفسها شيئاً قالت رضي الله عنها: (ورب إبراهيم)، فعلم عليه الصلاة والسلام أنها ما اختارت الحلف برب إبراهيم -هي تحلف برب محمد ورب إبراهيم، الذي تحلف به واحداً-، إلا لأنها تريد أن تبين له أن في نفسها شيئاً، وهذا من أكمل الأدب، ولا تفعله إلا الحرة الكريمة، أنها لا تبادر زوجها، بالأخطاء والتعنيف، ولكن تصبر وتتذمم، وما صبرت امرأة ولا تذممت، إلا وفقها الله وأحسن العاقبة لها، ولا صبر رجل، فآذته امرأته، فحفظ لسانه عن أن يقابل أذيتها بالأذية، وحفظ لسانه عن أن يسمعها ما تكره إلا أحسن الله له العاقبة في الدنيا والآخرة.

ذكروا عن رجلٍ من أهل العلم، أنه دخل عليه أحد طلابه، فوجد عنده ولده يخدمه ويبرُّه، فعجب من بِرِّ الابن بأبيه، فلما خرج الابن قال هذا العالم للتلميذ: أتعجب من بره؟ قال: نعم، وحكى له شدة إعجابه ببر الابن، فقال له: لقد عاشرت أمه أكثر من عشرين سنة، والله ما تبسمت في وجهي يوماً قط، فصبرت، فعوضني الله ما ترى.

فالرجل إذا أساءت إليه المرأة، وأخذ يقابل الإساءة بالسب والشتم واللعن، احتقرته المرأة وازدرته، وحينئذٍ لا تحفظ، ولا تذكر إذا غاب عنها وده ولطفه ، ولذلك يقولون: إن الإنسان أُحدوثةٌ بعد موته، فليختار لنفسه أطيب الحديث، يعني: كل من عاشرك، سيتحدث عنك بعد موتك، فأنت أحدوثة بما يكون منك من كلمات، وما يكون منك من أفعال، وأفضل ما يكون وأكمل ما يكون الرجل، في حالة الغضب وسورة الغضب وشدته حينما يملك نفسه، فلا يقول إلا خيراً، فرحم الله زوجاً لم يسمع زوجته ما تكره، فالعشرة بالمعروف بالقول من الأمور المهمة لصلاح بيوت المسلمين، والله يُعظِم للعبد أجره على قدر صبره، وفضل الله الرجال على النساء، وجعل فيهم من الصبر والحكمة ما لم يجعله لغيرهم، ولذلك ينبغي على الرجل أن يتجنب، وأن يتصبّر مهما سمع من المرأة ومهما رأى، وكذلك المرأة الصالحة تصبر، ومهما سمعت من الكلمات الجارحة، والعبارات القاسية، فإن الله سيجعلها رفعةً لدرجاتها، ومضاعفةً لحسناتها، وتكفيراً لخطيئاتها، والله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن ابتلاء الله للمرأة أن يبتليها بزوجٍ يؤذيها فتسمع ما تكره، فالمقصود أن العشرة بالمعروف تقوم على هذين الأمرين، تقوم على ثلاثة أمور منها هذان الأمران: النية الصالحة، والقول الحسن.

كذلك أيضاً من العشرة بالمعروف: المعاملة الصالحة المبنية على حسن التبعل، وحسن الذمة، والوفاء من الزوج لزوجته، ومن الزوجة لزوجها.

لا تستقيم بيوت المسلمين إلا بالأعمال الصالحة، وبالعشرة الطيبة، التي تنبئ عن طيب معدن الإنسان، وكرم خلقه وفضله، ولقد شهد رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم أن أفضل الناس، وخير الناس، من طاب لأهله، وفضل بأعماله، وأخلاقه، وشمائله الكريمة، فالرجل لا يكفي فيه القول ما لم يحقق القول بالعمل، فإذا أراد الله أن يكمل على العبد نعمته وأن يجمِّله في نعمه ومننه جمَّله بحسن الخلق، فمن أهم ما يعتني به من التزم دين الله واهتدى إلى صراط الله -بعد طاعة الله عز وجل- أن يحرص على الأخلاق الكريمة، وعلى الآداب الإسلامية التي يُعظِم الله بها الأجر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون) وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم لما سأله الصحابة وقلوبهم في شوقٍ وحنين لمعرفة السبب الذي يدخل العبد الجنة، ويدخل الأمة الجنة، قيل: (يا رسول الله! ما أكثر ما يُدخل الناس الجنة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: تقوى الله وحسن الخلق)، فالأعمال والأفعال مطلوبة للمعاشرة بالمعروف، وخير الناس ومن أفضل الناس من حسن خلقه وكمُل خلقه ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، وجعل صلى الله عليه وآله وسلم أحق الناس بحسن الخلق الأهل، وأقرب الناس من الإنسان، ولذلك أمر ببر الوالدين للقرب (قال: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، فجعل للأقربين الحظ الأوفر والنصيب الأكمل في حسن الخلق، والرجل الكامل في خلقه، الذي جمل الله أخلاقه وحسّنها أول ما يُبحث عنه في حسن الخلق في معاشرته لأهله، ولذلك قد يكون الرجل أمام الناس لطيفاً رقيقاً، ولكنه إذا دخل إلى بيت الزوجية -والعياذ بالله- كشّر عن أنيابه وساءت أخلاقه، فهذا من شرار خلق الله ولو كان أمام الناس لطيفاً، فإنه ربما كان لطفه أمام الناس نفاقاً ورياءً، ولكن أمام المرأة الضعيفة وأمام أولاده الذين هم تحت قوته وقسره وقهره سبع مفترس، حينما يكون وديعاً لطيفاً رحيماً رفيقاً مع أهله فإن ذلك من أصدق الشواهد على أنه صادقٌ في حسن الخلق ولذلك ينبغي على الإنسان إذا أراد أن يحسِّن الخلق، أن يبدأ أول ما يبدأ بأهله، كان صلى الله عليه وآله وسلم يقود الأمة ويقف على منبره يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويبين شرع الله ويهدي إلى صراط الله ويقود الجيوش لرفع دين الله وإعزاز كلمة الله فإذا دخل إلى بيته دخل بالحنان والرحمة والرفق واللطف، فكان صلى الله عليه وآله وسلم خير الناس لأهله، كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بين أهله أول ما يبدأ به السواك، حتى لا تُشم منه رائحة نتنة، وهذا يدل على أنه ينبغي على الزوج من خلال المعاشرة بالمعروف أن يراقب هيئته وشكله، كان ابن عباس رضي الله عنهما يدني المكحلة، ويكتحل أمام المرآة، ويقول: إني أحب أن أتجمل لأهلي كما أحب من أهلي أن يتجملوا لي، هذا كمال في الإسلام، إذا خرج الرجل من خارج بيته كانت له شئون وكمالات في معاملته مع الناس، وإذا دخل إلى أهله وزوجه، عامل كلاً بما يليق، فكان إذا دخل عليه الصلاة والسلام ابتدأ بالسواك، وكان يكره أن تشم منه رائحة غير طيبة، وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل مع أهله لاطف، وأحسن الحديث، وأحسن القول، وأحسن العمل، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما سُئِلت: ما حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيته؟ قالت: (كان يكون في خدمة أهله)، كان عليه الصلاة والسلام ربما رقع ثوبه، صلوات الله وسلامه عليه، لا يحس في ذلك بغضاضة ولا نقص، ولكنها رفعة وكمال، فهو أكمل الخلق وأشرفهم وأعظمهم منزلة عند الله عز وجل.

فالدخول إلى الأهل يكون بالتواضع، وبتوطئة الكنف، (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً)، وأحق من يوطأ له الكنف الزوجة، وإذا دخل عليه الصلاة والسلام إلى أهله حرص على إدخال السرور على الزوجة، حتى كان لو أراد أن يخرج لا يخرج إلا وقد ترك أثراً يشعر المرأة بالمحبة، وحفظ العهد والرباط الذي بينه وبينها، فكان يقبل نساءه قبل أن يخرج صلوات الله وسلامه عليه، لا يقبّل لقضية الشهوة، فكان إذا أذن المؤذن شُغل عليه الصلاة والسلام، ولكن يقبل للحنان والرحمة، ويشعر المرأة أن لها مكانة في قلبه، وأن لها مكانة في وجدانه، ولذلك حريٌ بالمسلم وبالموفّق إذا أراد أن يمتثل شرع الله في المعاشرة بالمعروف أن يحرص على المعاملة الكريمة، ثم كان عليه الصلاة والسلام إذا جلس مع أهله حرص على إدخال السرور، فكانت مواطن الحزن للحزن، ومواطن الفرح للفرح، ومواطن السرور للسرور، وكان لا يقول إلا حقاً بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

حدث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بحديث أم زرع ، وهو الحديث الطويل الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، وشرحه بعض الأئمة في مجلد، لاشتماله على حكم ومعانٍ جليلة، ثم ذكر حال أبي زرع مع أم زرع ، ثم قال لها عليه الصلاة والسلام: (كنت لك كـأبي زرعٍ لـأم زرع )، أي كنت لك في الكمال وحسن العشرة والألفة كـأبي زرعٍ لـأم رزع ، كان عليه الصلاة والسلام في وقت الفرح والمباسطة يدخل السرور والمباسطة على الأهل، ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما كان يوم العيد دخل الحبشة ولعبوا بالحراب في داخل المسجد.. والله كمال.. كمالٌ لهذه الشريعة، وسموٌ في منهجها، فهذا يوم العيد، يوم الفرح والسرور، والنفوس تحتاج أن يدخل عليها الإنسان شيء من الدعة والألفة حتى يذهب عنها ما تجده من السآمة والملل، فلما كان يوم العيد دخل الحبشة ولعبوا بالحراب داخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانظر هذا البيت الذي هو أفضل ثاني بيت من بيوت الله عز وجل فضلاً، مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا به يُتخذ مكاناً للعب بالسلاح في يوم العيد؛ لأنه يوم فرح، فلما دخل عمر وأراد أن يحصبهم رضي الله عنه؛ لأنه رأى بيت الله ومسجد الله وهؤلاء يعبثون به بالسلاح، فأراد أن يحصبهم، قال: (دعهم يا عمر ! فإنه يوم عيدنا)، دين كمال، يعطي كل شيءٍ حقه وحظه، فلذلك لما كان هذا اليوم أرادت أم المؤمنين عائشة أن تدخل على نفسها السرور، فاختارت أن تنظر لهؤلاء الحبشة وهم يعبثون بالسلاح، فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فانظروا امرأة تقول: اقدروا قدر الصبية الجهلاء، أي من كانت في سن صغير. تطلب هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هل قال لها: أنت ناقصة عقل، أنت تضيعين الوقت.. أمامنا الجنة.. أمامنا الآخرة، شغلها إلى الدنيا، الوقت وقتٌ للدنيا، ووقت للاستجمام، فما كان منه -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- إلا أن وقف على رجليه الشريفتين صلوات الله وسلامه عليه؛ من أجل أن تنظر إلى لعب الحبشة، ولكن لعلمه صلوات ربي وسلامه عليه أن هذا الوقوف يرضي الله، فأرضى الله بوقوفه، وقف وهو سيد الأمة وأكمل الأمة، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فما شعر بالغضاضة، ولا شعر بالنقص؛ لأنه يحس أنه يدخل الألفة والمحبة والسرور على أهله، وأنه يترجم بهذا الوقوف عن المحبة الصادقة والزوجية الكاملة، ولذلك كان خير زوجٍ لزوجه صلوات الله وسلامه عليه، ففي هذا أكمل الهدي وأفضله لمن أراد أن يعاشر بالمعروف، كانت تصنع له الطعام والشراب فكان إذا جمعه مع أهله وحِبِّه وزوجه السقف الواحد لا يسمعها كلمةً تكره، تأتيه بالطعام إن وجده خيراً حمده وأثنى وشكر بعد شكر الله، وإن وجد فيه النقص ما ذمه ولا عابه، ولا ذم الذي صنعت وفعلت بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

فالعشرة بالمعروف تحتاج إلى شيء من التضحية، تحتاج إلى شيء من الصدق في المحبة ومبادلة المشاعر، التي تنمي عن الكمال في الزوجية والألفة، ولذلك كان هديه عليه الصلاة والسلام أكمل الهدي، ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام، عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: (كان يُؤتى إليه بالشراب)، تأتي عليه الصلاة والسلام بالمرق أو باللبن، تقول رضي الله عنها، وهو الذي طلب وسأل، تقول رضي الله عنها: (فيقسم عليّ أن أشرب قبله)، لأنها ما كانت لترضى -لأنها كريمة بنت كريم- أن تتقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحفظت حقه، فإذا أدنته بالشراب، قال لها: اشربي، فأبت، فإذا أبت، حلف عليها، قالت: يُقسم علي، فتأخذ الشراب فتشرب، فيضع فمه حيث وضعت فمها صلوات الله وسلامه عليه. هل هو يريد موضع شربها؟ لا والله، ولكنه يريد أن يشعرها بمكانتها وبالمحبة وبالمودة؛ لأنه كما يتقرب لربه ساجداً وراكعاً يتقرب إلى الله بجبر قلبها، وإدخال السرور عليها، ويتقرب إلى الله بحسن مباسطتها، وبالتشريع للأمة في الكمالات، وبأحسن المعاملات التي تكون بين الأهلين والزوجات، فهذه كلها شئون ينبغي للمسلم أن يجعلها نصب عينيه، وعلى هذا فقد تحتاج المرأة أحياناً إلى إدخال السرور عليها في داخل البيت، فيترسم المسلم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحتاج إلى إدخال السرور عليها خارج البيت، فيُدخِل السرور عليها، يخرج معها بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه فيسابقها، هي تجري وهو يجري صلوات الله وسلامه عليه، نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه ومع ذلك يسبقها، حتى لما بدنت رضي الله عنها سبقها، فقال لها: (هذه بتلك)، وكل ذلك ملاطفة وإحسان في المعاشرة، والله ما نظرت إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتأملته وأحسنت النظر فيه إلا وجدت المعاشرة بالمعروف في أكمل حللها وأجمل صورها، حيث كان عليه الصلاة والسلام أكمل الأمة في حسن معاشرته لأهله، فلا تستقيم بيوت المسلمين إلا بمثل هذه المشاعر الرقيقة، ولذلك انظر إلى الزوج الذي يعامل زوجته بمثل هذه الأحاسيس، وبمثل هذه المشاعر الصادقة، كيف أن الله عز وجل يبارك له في أهله، ويبارك له في زوجه، فيعيش تلك الحياة السعيدة المطمئنة؛ لأن من اتقى الله وامتثل أمره فعاشر أهله بالمعروف وكل من اتقت الله فعاشرت بعلها بالمعروف جعل الله عاقبة ذلك الحياة الطيبة وحسن العشرة لهما، فلا يسمعان ولا يريان إلا ما يسرهما لا ما يسوءهما، فعلى المسلم أن يمتثل كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تحقيق هذا الواجب العظيم.

وهنا أمرٌ ينبغي التنبيه عليه، وهي مسألة عدم المقابلة والمكافأة في العشرة بالمعروف، من أصعب ما يكون على الزوج أن يبادل زوجه الحنان والرحمة والإحسان، فتقابله بالإساءة والأذية والامتهان والعصيان، ومن أصعب ما يكون أن تقابل المرأة زوجها بالمشاعر الكريمة والأحاسيس الطيبة والأخلاق الحسنة فإذا بها تُقابل بالمشاعر المؤلمة القاسية الجارحة التي تسيء إليها كثيراً، فما هو الواجب على المسلم؟ وما هو الواجب على المسلمة؟ يقول بعض العلماء: أكمل ما يكون الأجر وأعظم ما يكون الثواب في حسن المعاشرة بالمعروف، بل وأصدق ما يكون الزوج معاشراً لأهله بالمعروف إذا قوبل بالإساءة، وأكمل ما تكون المعاشرة من المرأة لزوجها بالمعروف إذا قوبلت بالإساءة، ولذلك قال أحدهم: (يا رسول الله! إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني، وأعطيهم ويحرمونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، فقال: إن كنت كما تقول، فكأنما تسفُّهم المَل) أي أنت الرابح، وأنت الذي في غنيمة، فالله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

يا أيها الزوج! إن أحسنت في معاشرتك فأنت تنتظر من الله حسن الثواب، وحسن العاقبة والمآب، ولا تنتظر من هذه المخلوقة شيئاً انتظر من الله، وهذا أمر ينبغي لكل مسلم يريد أن يكسَب الخلق الحسن ألا ينتظر من الآخر شيئاً، من أراد أن يحسن خلقه، وأن يكمُل خلقه فعليه أن يجعل نصب عينيه الله جل جلاله، ويمتثل شرع الله لله، لا من أجل أن يقابل معروفه بالمعروف وإحسانه بالإحسان، لا، وإنما من أجل أن يُقابل بالشكر من الله من فوق سبع سماوات، ومن أجل أن تخط الكلمات والأخلاق الطيبة والمعاشرة الطيبة في صحيفة عمله، فيراها نصب عينيه في يومٍ يبعثر فيه ما في القبور، ويحصّل فيه ما في الصدور، فإذا عمل الإنسان وكانت أخلاقه طيبة وكان زوجاً كريماً ووجد المرأة لئيمة وتؤذيه فليصبر، فلعل الله أن يعوِّضه خيراً.

قال بعض العلماء في قوله تعالى: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]: لما ابتلي زكريا بحرمان الولد، صدع إلى الله بدعواته، كما ذكر الله عز وجل: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم:2-5]، ناداه وعمره مائة وعشرون عاماً، ما قنط من رحمة الله جل جلاله، فناداه في آخر عمره أن يرزقه الله الولد، فمن كرم الله عز وجل أن الله أعطاه حاجته وزاده، وهكذا على الدوام كل من دعا الله بيقين خاصةً في الكربات والشدائد فإن الله لا يعطيه حاجته فقط، بل يعطيه حاجته وزيادة، ولذلك قال تعالى: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]، أعطاه الولد: وهبه زكريا، وأصلح له زوجه: قال بعض العلماء في هذا: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]: كانت زوجته تسبه وتؤذيه وكانت سيئة غليظةً عليه فصبر عليها إلى آخر عمره، فعوّضه الله الولد، وحسن الاستقامة من الزوجة، وحسن المعاشرة منها، يقول بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: قل أن يؤذى رجل بزوجته في أول حياته إلا عوّضه الله صلاحها في آخر عمره، حتى ذكروا عن بعض الناس أنه ابتلي بزوجة آذته وأضرت به في أول حياته، وشاء الله عز وجل أنه ابتلي بالمرض في آخر عمره، فعطف الله قلبها عليه في آخر العمر، وأصبحت تحن إليه حناناً شديداً، وأصبحت تقوم على شأنه، حتى تخلّى عنه أولاده وإخوانه وعشيرته وقرابته وما بقي معه إلا امرأته، وهذا من الله جل جلاله؛ لأن الله سبحانه وتعالى يكافئ العبد على صبره، فإذا عاشر الرجل امرأته بالمعروف فوجد خيراً فليحمد الله، وإذا وجد غير ذلك فليصبر فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وكذلك المرأة الصالحة لا تنتظر من بعلها إذا عاشرت بالمعروف أن يرد لها معروفها، ولكن تنتظر من الله جل جلاله أن يعوِّض صبرها، وأن يجبر كسرها، وعليها إذا رأت الخير من زوجها أن تحمد، وإن رأت غير ذلك فلتصبر، فإن الله سيعوضها في دينها ودنياها وآخرتها.

حق المبيت والقسم بين الزوجات

الحق الأخير: حق المبيت، والمراد بحق المبيت: إعفاف الرجل لامرأته، وإعفاف المرأة لزوجها، وهذا الحق ينبغي أن يحفظه كلٌ من الزوجين للآخر، وقال بعض العلماء: إن المقصود من النكاح إعفاف الرجل لنفسه وإعفاف المرأة نفسها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع من منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج)، فلا يُغض البصر عن حرمات الله ولا يحصن عن حدود الله ومحارمه، إلا إذا أحسنت المرأة التبعُّل لزوجها، والعكس، ما حفظ الزوج زوجته وتقرب إلى الله بحفظها عن الحرام إلا كتب الله له بذلك أجراً، ومن هنا قال صلى الله عليه وآله وسلم: (وفي بِضع أَحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له بها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر)، شكر الله من الزوج، فكتب له ثواب ما يلقي من النطفة؛ لأن هذه النطفة، وهذا الإحسان إلى الزوجة بإعفافها عن الحرام يصونها عن حدود الله، ويحفظها عن محارم الله، ويُقيمها على صراط الله، فالواجب على الزوج أن يُعين زوجته على ذلك، والواجب على الزوجة أن تعين زوجها على ذلك، بتهيئة الأسباب، فالمرأة تتجمل وتتكامل لزوجها حتى تغِضّه وتُعِفّه، كذلك الرجل يتجمل ويتزين لامرأته حتى يعفها، ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (صدق سلمان ) أي: أن لزوجك عليك حقاً، لأنه لما رأى أم الدرداء غير متجملة، مبتذلة في ثيابها، سألها عن ذلك فأخبرته أن أبا الدرداء لا حاجة له بها، فلما أتى أبو الدرداء وعظه، وقال له: (إن لنفسك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعطي كل ذي حقٍ حقه)، فجاء أبو الدرداء إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال: (صدق سلمان )، صدق وذلك بقوله: إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فهذا كله دار حينما رأى سلمان المرأة مبتذلة في ثيابها، فعلم أنها لا تستطيع أن تقوم بحق زوجها، وعلم أن وراء ذلك سراً، فاستكشف وسأل حتى يعلم ما بأخيه، فلما رأى التقصير وعظ أخاه وذكره، وبين له أن هذا حقٌ واجبٌ عليه، ولذلك كما يتقرب العبد لربه بالركوع والسجود يتقرب بإعفاف نفسه عن الحرام، فالله يُطاع بأمرين: بفعل أوامره وترك نواهيه، ومن أعظم المزالق والهوى: زلة الزنا والعياذ بالله، إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا [النساء:22] تُنتهك به أعراض المسلمين، وتختلط به أنسابهم، ويكون منه من الشر ما الله به عليم، تأذّن الله بالفقر لصاحبه وبالأذية وبالسقم والمرض، وما يكون من شرور العواقب، فمن الذي يحفظ بعد الله إلا المرأة الصالحة، والرجل الصالح الذي يحفظ زوجته، خاصةً في زمان مليءٍ بالفتن، تهيّئ المرأة من نفسها الأسباب للتجمل والكمال؛ حتى يرى الرجل في زوجته الكمال، فيحفظ نفسه عن غيرها، كذلك أيضاً الرجل يهيئ من نفسه فيحفظ زوجته، فلا يسهر كثيراً خارج البيت، ولا يأتي في ساعات تعبه ونصبه خاملاً كسلاناً لكي يضيع حق أهله، ويحرمهم الحنان ويحرمهم الإعفاف والإحصان عما حرم الله عز وجل عليهم، فلذلك ينبغي على كلا الزوجين لتحقيق هذا الحق تهيئة الأسباب، ويكون الرجل مرتباً لأوقاته، فساعات الأهل للأهل، وساعات العمل للعمل، ولكل ذي حقٍ حقه، ولذلك يوصي العلماء دائماً بترتيب الأوقات، ومن أعظم المصائب التي بُليت بها الأمة خاصةً في هذا الزمان كثرة السهر، هذا السهر دمر بيوت المسلمين، وأضاع حقوق الأزواج والزوجات والأولاد.. الأبناء والبنات، بل كثير من مشاكل الطلاق تنشأ من السهر؛ لأن الرجل ضيع حق زوجته وحق ولده، ولذلك لو أن الناس حفِظوا أوقاتهم خاصةً بعد العشاء، وحرص الإنسان على ترتيب وقته في إدخال السرور على أهله، لأن الله جعل الليل سكناً، فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا [الأنعام:96] هذه سنة الله، وفطرة الله، فجعل الله للمرأة حقاً في زوجها، وكذلك جعل للرجل حقاً في امرأته.

قال العلماء: يجب على الرجل أن يصيب امرأته، واختلفوا في الأمد، قال بعض العلماء: يجب عليه أن يصيبها كل أربع ليالٍ مرة، لأن الله أعطى الرجل أربع زوجات، ونصيبها عند التعدد أن يكون لها ليلةٌ من الأربع، ولذلك قالوا: يصيبها في أربع، ولذلك لما جاءت المرأة إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قالت له: يا أمير المؤمنين! زوجي يصوم النهار ويقوم الليل، فقال لها: بارك الله لك في بعلك، أثنى على بعلها خيراً، فمضت ثم رجعت، فقالت: يا أمير المؤمنين! زوجي يصوم النهار ويقوم الليل، فقال لها: من زوجك؟ قالت: فلان، قال: جزاك الله خيراً، أعلمتينا خيره أو عرفتينا فضله، فمضت ثم رجعت، فقالت: يا أمير المؤمنين! زوجي يصوم النهار ويقوم الليل، وهذا يدل على كمال السلف الصالح والأدب والحياء والخجل، ما أجمل النساء إذا حفظن الحياء والخجل، تكمل المرأة. لذلك يقول العلماء: إن الحياء كالغطاء للحلوى، فإذا تكشفت سقط عليها الذباب، كذلك المرأة إذا لبست الحياء كمُلت، وأصبحت سراً ثميناً ودرة مصونة، فاستحت أن تؤذي زوجها بذكره مباشرةً أنه يسيء إليها، قال بعض العلماء: إما أنها حيية والحياء خير، وإما أنها كريمة لا تريد أن تنتقص زوجها عند عمر ، فالمهم أنه قال كعب رضي الله عنه: (يا أمير المؤمنين! إن الزوجة تشتكي زوجها، ولا تظنون أن عمر كان غافلاً، إنما كان عمر ذكياً فطناً، وإنما أراد أنه يصبِّر المرأة ويصرفها، وهذا دأب عمر ، أنه دائماً يدرأ بالشبهات، حتى لما جاء يشتكي الزبرقان من الحطيئة، فهذا منهج عمر دائماً يوري ويبعد الناس عن المشاكل؛ لأنه كلما كان الناس يصطلحون فيما بينهم كلما كان ذلك أفضل، ولا يلجئهم دائماً إلى الشكوى والفصل بينهم، وهذا منهج معروف في تدبير الناس، المقصود قال لكعب : (أما وإنك قد فطنت لهما فلا يقضي بينهما إلا أنت)، فجيء بالرجل، فقالت المرأة:

ألهى خليلي عن فراش مسجده وليله نهاره ما يرقـده

ولست في أمر النساء أحمده

ما قالت: زوجي يفعل، أو زوجي الظالم، أو زوجي كذا، أين نساء اليوم؟ وأين ما يسمع من الشكاوى أمام القضاة من السب والشتم؟ والمرأة بمجرد أن ترى الإساءة أقامت الدنيا وأقعدتها، فما بقيت معيبة ولا منقصة إلا ذكرتها في بعلها، رحم الله الصالحات، الصلاح إذا دخل في المرأة رأيت خيراً وسمعت خيراً، فهذا من صلاح الرعيل الأول، ولذلك زكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم القرن الأول: (خير القرون قرني)، أي والله خير قرن نساءً ورجالاً، شباباً وشيباً وأطفالاً، جعل الله فيه الخير، فانظر كيف أن المرأة ما تبادر حتى بالإساءة؟ ما قالت: زوجي يفعل كذا، إنما قالت: (ألهى خليلي عن فراش مسجده..)، وذكرت محاسنه وفضائله.. (ليله نهاره ما يرقده، ولست في أمر النساء أحمده)، حتى لما يقال: لست أحمده في أمر النساء، قد يكون هذا نقص في الكمال، ولا يقتضي طعناً، فقال زوجها:

زهدني في فرشها ما قد نزل في سورة النحل وفي السبع الطول

إني امرؤ قد رابني وجـل

أي رابني الخوف من الله، وذكرت الآخرة، وقرأت كتاب الله، فأقامني على الآخرة، حتى كأني أراها رأي عيان، فزهدتني النار وما فيها من الأغلال، وزهدتني الجنة وما فيها من النعيم في هذا المتاع الزائل والنعيم الحائل، فقال رضي الله عنه وأرضاه:

إن لها عليك حقاً يا رجـل تصيبها في أربعٍ لمن عقل

فالزم بذا ودع عنك العلل

لابد من يومٍ في أربع، لا نقبل عذراً، وليس من حقك،

إن لها عليك حقاً يا رجـل تصيبها في أربعٍ لمن عقل

كن عاقلاً لبيباً، هذه امرأة أمانةٌ في عنقك، حقٌ واجبٌ عليك، ولذلك قال: إنه يصيبها في كل أربع ليالٍ مرة، لأن الله جعل للحر أربع زوجات، فيكون نصيب الواحدة نصيبه من الأربع، ليلة من بين أربع ليالٍ، وقال بعض العلماء: لا يجب على الرجل أن يصيب امرأته، ويترك هذا إلى نشاطه وقوته، وإنما يتقيد بالأربعة الأشهر، فإذا مضت الأربعة الأشهر يكون آثماً وظالماً؛ لأنها مدة الإيلاء.

وفي الحقيقة القول الأول قوي، أنه في كل أربع ليالٍ مرة، لأن هذا له أصلٌ من الشرع، وتكون مدة الإيلاء غاية ما يُترك له الرجل في المعاشرة، بحيث يجوز للمرأة أن تشتكيه وأن تتظلم، خاصةً إذا حلف أنه لا يطأ المرأة، وهذا الوطء يُترك للإنسان بنشاطه، كما ذكر العلماء أنه لا يفرض على الرجل أن يُبالغ، ولكن ذكر أهل العلم أنه إذا وجدت الموانع في المرأة، كنقصان الجمال، ويكون الرجل مالاً لزوجته، أو غير مقبلٍ عليها، قالوا أنه أفضل ما يكون في حسن الإحسان إلى الزوجة في مثل هذا، لأن المرأة إذا كانت ناقصة الجمال، كانت إصابته لها أكثر ما تكون لله، وخوفاً من الله، وحفظاً لحق الله في أمة الله، فإذا أراها ذلك وحرص على حفظها من الحرام، فهذا من أبلغ ما يكون، أما إذا كانت ذات جمال، فإنه في هذه

فأما حق العشرة بالمعروف، فإنه لا سعادة للمسلمين ولا طمأنينة لهم في بيوتهم إلا إذا قامت على العشرة بالمعروف، وهذا الحق أمر الله عز وجل به؛ لما فيه من صلاح أمر الزوج والزوجة، ولما فيه من السعادة لهما، وهو الاختبار الحقيقي للزوج وللزوجة، قال الله في كتابه المبين: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، ولذلك قال العلماء: المعاشرة بالمعروف حقٌ واجب، يأثم تاركه، ويثاب فاعله، وقال الله عز وجل: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطلاق:2] والمعاشرة بالمعروف، تستلزم أموراً لا بد منها، وهذه الأمور تكون في قلب الإنسان، فيما بينه وبين الله، وتكون في قوله وكلماته وما يصدر منه من عباراته، وتكون منه في تصرفاته وأفعاله، فهناك ثلاثة جوانب للمعاشرة بالمعروف.

الأول -وهو أهمها-: النية الصالحة، فلن يستطيع الرجل أن يعاشر امرأته بالمعروف ولن تستطيع المرأة أن تعاشر زوجها بالمعروف إلا إذا غيّب كلٌ منهما نية صالحة، وهذا هو الذي عناه الله عز وجل بقوله: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [البقرة:231]، فإذا أراد الإنسان أن يُمسك زوجه، فلتكن نيته صالحةً تجاهها، ولذلك قال العلماء: ما غيّب الإنسان في سريرته وقلبه أمراً -خيراً كان أو شراً- إلا أظهره الله في فلتات لسانه، فالذي ينوي الخير لامرأته ويتزوج المرأة أو يردها إلى عصمته وفي قلبه أن يحسن وأن يكرم وأن يعاشر بمعروف وفّقه الله وسدده، قال تعالى: إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا [الأنفال:70]، فالله إذا اطلع على قلب الرجل واطلع على قلب المرأة ووجد كلاً منهما يبيّت النية الصالحة وفّق الله كلاً منهما في ظاهره وتصرفاته وأفعاله، لكي يكون منه الخير، فأول ما يوصى به من أراد أن يعاشر بالمعروف: النية الصالحة، وكان بعض العلماء يقول: ينبغي للزوج أن يجدد نيته كل يوم، حتى يُعظِم الله أجره وثوابه، خاصةً إذا كانت المرأة صالحة، أو كانت ذا حقٍ على الإنسان كقريبته ونحو ذلك، فيُغيِّب في قلبه نية الخير لها، وإذا غيّب الخير أظهره الله في أقواله وأفعاله، وهكذا المرأة تغيب في قلبها نية الخير للزوج، وما إن تتغير هذه النية حتى يغير الله ما بالزوجين إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11]، فإذا غيّر الزوج أو الزوجة نيتهما غير الله حالهما من الخير إلى الشر ومن الحسن إلى الأسوأ، ولذلك كل من أصابته مصيبة بينه وبين أهله فلينظر إلى نيته وقلبه، فالأصل في العشرة بالمعروف أنه ينبعث من نية صالحة ومن نيةٍ طيبة ومن قلبٍ يغيّب الخير حتى تظهر الآثار على الجوارح، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله).

الأمر الثاني للعشرة بالمعروف: قول الخير ، فكما أن الإنسان ينبغي أن يغيّب في قلبه النية الطيبة حتى يعاشر بالمعروف ينبغي أن يكون قوله موافقاً لمرضاة الله عز وجل، قال بعض العلماء: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [النساء:19] المعروف: كل ما وافق شرع الله عز وجل، والمنكر: كل ما خالف شرع الله، فإذا أراد أن يعاشر زوجته بالمعروف، فعليه أن يتقي الله فيما يقول، وكذلك على المرأة أن تتقي الله فيما تقول، والأصل الذي قرره كتاب الله وقررته سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ينبغي على كل مؤمنٍ ومؤمنة أن يحفظ لسانه، وأن يقول الخير، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت)، فمن دلائل الإيمان بالله عز وجل حفظ اللسان، واستقامة اللسان حينما يخاطب الناس على العموم وحينما يخاطب الأهل على الخصوص، والله تعالى أوصى المؤمنين -أوصى من قبلنا، ووصيته لمن قبلنا وصيةٌ لنا- فقال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83] فأمرنا إذا تكلمنا وإذا نطقنا أن نقول الحسن الذي يرضيه سبحانه؛ لأن القول الحسن يُحسن إلى صاحبه في الدنيا والآخرة، والقول السيئ يسيء إلى صاحبه في الدنيا والآخرة.

الحلم زينٌ والسكوت سلامةٌ فإذا نطقت فلا تكن مهذارا

ما إن ندمت على السكوت مرةٍ ولقد ندمت على الكلام مرارا

فالكلمة إذا خرجت من اللسان لا تعود، وإذا خرجت جارحةً قاسية أدمت القلوب وأحدثت فيها من الفساد ومن تغيُّر الإلفة والمحبة ما الله به عليم؛ ولذلك أوصى الله بحفظ اللسان في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل العلماء المحاور التي تكون بها العشرة بالمعروف في الأقوال بين الزوجين في أحوال:

الأول: في النداء، إذا نادى الزوج الزوجة، وإذا نادت الزوجة زوجها.

الثاني: في الطلب عند الحاجة، تطلب منه أو يطلب منها.

والثالث: عند المحاورة، والكلام، والحديث، والمباسطة.

والرابع: عند الخلاف والنقاش.

الحالة الأولى: عند النداء. إذا نادت المرأة بعلها فإنه ينبغي لكل من الزوجين أن يحسن النداء، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينادي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فيقول: (يا عائش!) قال العلماء: إن هذا اللفظ يدل على الإكرام والملاطفة، وحسن التبعُّل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأهله، فهذا منهجٌ للمسلم إذا نادى زوجه، أن يجعل في ندائه من الكلمات ما ينبئ عن شيءٍ من المحبة والملاطفة، فالغلظة والوحشية في النداء بأسلوب القسر والقهر من الرجل أو بأسلوب السخرية والتهكم من المرأة تفسد المحبة، وتقطع أواصر الألفة بين الزوج والزوجة، فتتخير الزوجة أحب الأسماء إلى زوجها، ويتخير الزوج أحب الأسماء لزوجه، ويكون كما قال عمر : (إن مما يبعث المودة والمحبة أن ينادي المسلم أخاه بأحب الأسماء إليه)، فهي إحدى الثلاث التي تزيد من ود المسلم لأخيه المسلم، فكيف بالزوجة مع زوجها؟! فمن الأخطاء أن يختار الزوج لزوجته كلمة يجرحها بها، ويجعلها طريقاً للتعيير والانتقاص منها، ومن الأخطاء كذلك أن الزوجة تختار لزوجها كلمة تنتقصه أو تحقِّره بها، وكان بعض العلماء يقول: الأفضل ألا تناديه وألا يناديها بالاسم المجرد، فمن أكرم ما يكون في النداء النداء بالكنية، فهذا من أفضل ما يكون. وقال العلماء: إنه ما من زوج يألف ويعتاد نداء زوجته بالملاطفة إلا قابلته المرأة بمثل ذلك وأحسن، فإن النساء جبلن على الملاطفة، وجبلت على حب الدعة والرحمة والألفة، فإذا قابلها الزوج بذلك قابلته بما هو أحسن وأفضل.

الحالة الثانية: عند الطلب. إذا خاطب الرجل امرأته عند الطلب وأراد منها أمراً، يطلب ذلك منها بأسلوبٍ لا يشعرها بالخدمة والإذلال والامتهان والانتقاص، والمرأة إذا طلبت من بعلها شيئاً لا تجحفه ولا تؤذيه ولا تضره، ولا تختار الكلمات والألفاظ التي تقلقه وتزعجه، فهذا مما يحفظ اللسان، ويعين على العشرة بالمعروف في الكلمات، كذلك أيضاً قال صلى الله عليه وآله وسلم لأم المؤمنين رضي الله عنها، وهو في المسجد: (ناوليني الخُمْرَة، قالت: إني حائض، قال: إن حيضتك ليست في يدك) فانظر إلى رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم، يسأل حاجته من أم المؤمنين، فلما اعتذرت، اعتذرت بالعذر الشرعي، وما قالت: لا أستطيع إبهاماً، أو معللة عدم استطاعتها بشيءٍ مجهول، وإنما قالت: إني حائض، فبماذا تأمرني؟ وماذا تريد؟ وكيف أفعل؟ فقال: (إن حيضتك ليست في يدك)، أي إذا ناولتينيها فإن دخول اليد ليس كدخول الكل. الشاهد: الملاطفة في النداء والطلب وعند الحاجة، وقد تقع المشاكل الزوجية بكثرة الحوائج، ذكر بعض العلماء: أن المرأة إذا أثقل عليها الزوج بالحوائج، وكان أسلوبه في الطلب مزعجاً مقلقاً، فإن هذا من أهم الأسباب التي تفسد المودة وتفسد المحبة؛ لأن المرأة تشعر وكأنها خادمة وكأنها ذليلةٌ في بيت زوجها، ومما أوصى به الحكماء والعقلاء، بل أوصى به قبل ذلك رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم، المكافأة عند الطلب ولو بالكلمات، فالزوج إذا احتاج من امرأته شيئاً وطلبها وجاءته بالشيء قابلها بالكلمة الطيبة، من الدعاء لها بالخير، والدعاء أن يبارك الله فيها، فالمرأة إذا وجدت أن معروفها يُشكر وأن خيرها يُذكر ولا يُكفر حمدت ذلك من بعلها، ونشطت للإحسان إليه والقيام بأمره وشأنه، بل كان ذلك معيناً لها على البقاء على العشرة بالمعروف.

الحالة الثالثة: حالة الحديث والمباسطة، فلا ينبغي للمرأة ولا ينبغي للرجل أن يُحدِّث كلٌ منهما الآخر في وقتٍ لا يتناسبُ فيه الحديث؛ ولذلك ذكر بعض أهل العلم أن من الأذية بالقول أن تتخير المرأة ساعات التعب والنصب لمحادثة الزوج، أو يتخير الزوج ساعات التعب والنصب لمحادثة زوجته، فهذا كله مما يحدث السآمة والملل، ويخالف العشرة بالمعروف التي أمر الله عز وجل بها، وقالوا: إذا باسط الرجل امرأته فليتخير أحسن الألفاظ، وإذا قص لها تخير أحسن القصص وأفضلها، مما يحسن وقعه ويطيب أثره.

الحالة الرابعة: عند الخصومة والنزاع، فمن العشرة بالمعروف إذا وقع الخلاف بين الرجل والمرأة أن يحدد الخلاف بينه وبين امرأته، وأن يبين لها الخطأ إن أخطأت بأسلوبٍ بعيدٍ عن التعنيف والتقريع إذا أراد أن يقرِّرها، وبعد أن تقر وتعترف إن شاء وبخها وإن شاء عفا عنها، أما أن يبادرها بالهجوم مباشرة قبل أن يبين لها خطأها فإن هذا مما يقطع الألفة والمحبة ويمنع من العشرة بالمعروف؛ لأنها تحس وكأنها مظلومة، والأفضل والأكمل: أن الرجل إذا عتب على امرأته شيئاً أن يتلطف في بيان خطئها، كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعلم متى تكون أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها راضيةً عنه ومتى تكون ساخطة، فإن كانت راضيةً عنه قالت: (ورب محمد)، وإن كان في نفسها شيئاً قالت رضي الله عنها: (ورب إبراهيم)، فعلم عليه الصلاة والسلام أنها ما اختارت الحلف برب إبراهيم -هي تحلف برب محمد ورب إبراهيم، الذي تحلف به واحداً-، إلا لأنها تريد أن تبين له أن في نفسها شيئاً، وهذا من أكمل الأدب، ولا تفعله إلا الحرة الكريمة، أنها لا تبادر زوجها، بالأخطاء والتعنيف، ولكن تصبر وتتذمم، وما صبرت امرأة ولا تذممت، إلا وفقها الله وأحسن العاقبة لها، ولا صبر رجل، فآذته امرأته، فحفظ لسانه عن أن يقابل أذيتها بالأذية، وحفظ لسانه عن أن يسمعها ما تكره إلا أحسن الله له العاقبة في الدنيا والآخرة.

ذكروا عن رجلٍ من أهل العلم، أنه دخل عليه أحد طلابه، فوجد عنده ولده يخدمه ويبرُّه، فعجب من بِرِّ الابن بأبيه، فلما خرج الابن قال هذا العالم للتلميذ: أتعجب من بره؟ قال: نعم، وحكى له شدة إعجابه ببر الابن، فقال له: لقد عاشرت أمه أكثر من عشرين سنة، والله ما تبسمت في وجهي يوماً قط، فصبرت، فعوضني الله ما ترى.

فالرجل إذا أساءت إليه المرأة، وأخذ يقابل الإساءة بالسب والشتم واللعن، احتقرته المرأة وازدرته، وحينئذٍ لا تحفظ، ولا تذكر إذا غاب عنها وده ولطفه ، ولذلك يقولون: إن الإنسان أُحدوثةٌ بعد موته، فليختار لنفسه أطيب الحديث، يعني: كل من عاشرك، سيتحدث عنك بعد موتك، فأنت أحدوثة بما يكون منك من كلمات، وما يكون منك من أفعال، وأفضل ما يكون وأكمل ما يكون الرجل، في حالة الغضب وسورة الغضب وشدته حينما يملك نفسه، فلا يقول إلا خيراً، فرحم الله زوجاً لم يسمع زوجته ما تكره، فالعشرة بالمعروف بالقول من الأمور المهمة لصلاح بيوت المسلمين، والله يُعظِم للعبد أجره على قدر صبره، وفضل الله الرجال على النساء، وجعل فيهم من الصبر والحكمة ما لم يجعله لغيرهم، ولذلك ينبغي على الرجل أن يتجنب، وأن يتصبّر مهما سمع من المرأة ومهما رأى، وكذلك المرأة الصالحة تصبر، ومهما سمعت من الكلمات الجارحة، والعبارات القاسية، فإن الله سيجعلها رفعةً لدرجاتها، ومضاعفةً لحسناتها، وتكفيراً لخطيئاتها، والله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن ابتلاء الله للمرأة أن يبتليها بزوجٍ يؤذيها فتسمع ما تكره، فالمقصود أن العشرة بالمعروف تقوم على هذين الأمرين، تقوم على ثلاثة أمور منها هذان الأمران: النية الصالحة، والقول الحسن.

كذلك أيضاً من العشرة بالمعروف: المعاملة الصالحة المبنية على حسن التبعل، وحسن الذمة، والوفاء من الزوج لزوجته، ومن الزوجة لزوجها.

لا تستقيم بيوت المسلمين إلا بالأعمال الصالحة، وبالعشرة الطيبة، التي تنبئ عن طيب معدن الإنسان، وكرم خلقه وفضله، ولقد شهد رسول الأمة صلى الله عليه وآله وسلم أن أفضل الناس، وخير الناس، من طاب لأهله، وفضل بأعماله، وأخلاقه، وشمائله الكريمة، فالرجل لا يكفي فيه القول ما لم يحقق القول بالعمل، فإذا أراد الله أن يكمل على العبد نعمته وأن يجمِّله في نعمه ومننه جمَّله بحسن الخلق، فمن أهم ما يعتني به من التزم دين الله واهتدى إلى صراط الله -بعد طاعة الله عز وجل- أن يحرص على الأخلاق الكريمة، وعلى الآداب الإسلامية التي يُعظِم الله بها الأجر، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة: أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون) وأخبر صلى الله عليه وآله وسلم لما سأله الصحابة وقلوبهم في شوقٍ وحنين لمعرفة السبب الذي يدخل العبد الجنة، ويدخل الأمة الجنة، قيل: (يا رسول الله! ما أكثر ما يُدخل الناس الجنة؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: تقوى الله وحسن الخلق)، فالأعمال والأفعال مطلوبة للمعاشرة بالمعروف، وخير الناس ومن أفضل الناس من حسن خلقه وكمُل خلقه ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، وجعل صلى الله عليه وآله وسلم أحق الناس بحسن الخلق الأهل، وأقرب الناس من الإنسان، ولذلك أمر ببر الوالدين للقرب (قال: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، فجعل للأقربين الحظ الأوفر والنصيب الأكمل في حسن الخلق، والرجل الكامل في خلقه، الذي جمل الله أخلاقه وحسّنها أول ما يُبحث عنه في حسن الخلق في معاشرته لأهله، ولذلك قد يكون الرجل أمام الناس لطيفاً رقيقاً، ولكنه إذا دخل إلى بيت الزوجية -والعياذ بالله- كشّر عن أنيابه وساءت أخلاقه، فهذا من شرار خلق الله ولو كان أمام الناس لطيفاً، فإنه ربما كان لطفه أمام الناس نفاقاً ورياءً، ولكن أمام المرأة الضعيفة وأمام أولاده الذين هم تحت قوته وقسره وقهره سبع مفترس، حينما يكون وديعاً لطيفاً رحيماً رفيقاً مع أهله فإن ذلك من أصدق الشواهد على أنه صادقٌ في حسن الخلق ولذلك ينبغي على الإنسان إذا أراد أن يحسِّن الخلق، أن يبدأ أول ما يبدأ بأهله، كان صلى الله عليه وآله وسلم يقود الأمة ويقف على منبره يحل حلال الله ويحرم حرام الله ويبين شرع الله ويهدي إلى صراط الله ويقود الجيوش لرفع دين الله وإعزاز كلمة الله فإذا دخل إلى بيته دخل بالحنان والرحمة والرفق واللطف، فكان صلى الله عليه وآله وسلم خير الناس لأهله، كان عليه الصلاة والسلام إذا دخل بين أهله أول ما يبدأ به السواك، حتى لا تُشم منه رائحة نتنة، وهذا يدل على أنه ينبغي على الزوج من خلال المعاشرة بالمعروف أن يراقب هيئته وشكله، كان ابن عباس رضي الله عنهما يدني المكحلة، ويكتحل أمام المرآة، ويقول: إني أحب أن أتجمل لأهلي كما أحب من أهلي أن يتجملوا لي، هذا كمال في الإسلام، إذا خرج الرجل من خارج بيته كانت له شئون وكمالات في معاملته مع الناس، وإذا دخل إلى أهله وزوجه، عامل كلاً بما يليق، فكان إذا دخل عليه الصلاة والسلام ابتدأ بالسواك، وكان يكره أن تشم منه رائحة غير طيبة، وكان عليه الصلاة والسلام إذا دخل مع أهله لاطف، وأحسن الحديث، وأحسن القول، وأحسن العمل، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لما سُئِلت: ما حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيته؟ قالت: (كان يكون في خدمة أهله)، كان عليه الصلاة والسلام ربما رقع ثوبه، صلوات الله وسلامه عليه، لا يحس في ذلك بغضاضة ولا نقص، ولكنها رفعة وكمال، فهو أكمل الخلق وأشرفهم وأعظمهم منزلة عند الله عز وجل.

فالدخول إلى الأهل يكون بالتواضع، وبتوطئة الكنف، (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً)، وأحق من يوطأ له الكنف الزوجة، وإذا دخل عليه الصلاة والسلام إلى أهله حرص على إدخال السرور على الزوجة، حتى كان لو أراد أن يخرج لا يخرج إلا وقد ترك أثراً يشعر المرأة بالمحبة، وحفظ العهد والرباط الذي بينه وبينها، فكان يقبل نساءه قبل أن يخرج صلوات الله وسلامه عليه، لا يقبّل لقضية الشهوة، فكان إذا أذن المؤذن شُغل عليه الصلاة والسلام، ولكن يقبل للحنان والرحمة، ويشعر المرأة أن لها مكانة في قلبه، وأن لها مكانة في وجدانه، ولذلك حريٌ بالمسلم وبالموفّق إذا أراد أن يمتثل شرع الله في المعاشرة بالمعروف أن يحرص على المعاملة الكريمة، ثم كان عليه الصلاة والسلام إذا جلس مع أهله حرص على إدخال السرور، فكانت مواطن الحزن للحزن، ومواطن الفرح للفرح، ومواطن السرور للسرور، وكان لا يقول إلا حقاً بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

حدث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بحديث أم زرع ، وهو الحديث الطويل الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، وشرحه بعض الأئمة في مجلد، لاشتماله على حكم ومعانٍ جليلة، ثم ذكر حال أبي زرع مع أم زرع ، ثم قال لها عليه الصلاة والسلام: (كنت لك كـأبي زرعٍ لـأم زرع )، أي كنت لك في الكمال وحسن العشرة والألفة كـأبي زرعٍ لـأم رزع ، كان عليه الصلاة والسلام في وقت الفرح والمباسطة يدخل السرور والمباسطة على الأهل، ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه لما كان يوم العيد دخل الحبشة ولعبوا بالحراب في داخل المسجد.. والله كمال.. كمالٌ لهذه الشريعة، وسموٌ في منهجها، فهذا يوم العيد، يوم الفرح والسرور، والنفوس تحتاج أن يدخل عليها الإنسان شيء من الدعة والألفة حتى يذهب عنها ما تجده من السآمة والملل، فلما كان يوم العيد دخل الحبشة ولعبوا بالحراب داخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فانظر هذا البيت الذي هو أفضل ثاني بيت من بيوت الله عز وجل فضلاً، مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا به يُتخذ مكاناً للعب بالسلاح في يوم العيد؛ لأنه يوم فرح، فلما دخل عمر وأراد أن يحصبهم رضي الله عنه؛ لأنه رأى بيت الله ومسجد الله وهؤلاء يعبثون به بالسلاح، فأراد أن يحصبهم، قال: (دعهم يا عمر ! فإنه يوم عيدنا)، دين كمال، يعطي كل شيءٍ حقه وحظه، فلذلك لما كان هذا اليوم أرادت أم المؤمنين عائشة أن تدخل على نفسها السرور، فاختارت أن تنظر لهؤلاء الحبشة وهم يعبثون بالسلاح، فسألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فانظروا امرأة تقول: اقدروا قدر الصبية الجهلاء، أي من كانت في سن صغير. تطلب هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هل قال لها: أنت ناقصة عقل، أنت تضيعين الوقت.. أمامنا الجنة.. أمامنا الآخرة، شغلها إلى الدنيا، الوقت وقتٌ للدنيا، ووقت للاستجمام، فما كان منه -بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه- إلا أن وقف على رجليه الشريفتين صلوات الله وسلامه عليه؛ من أجل أن تنظر إلى لعب الحبشة، ولكن لعلمه صلوات ربي وسلامه عليه أن هذا الوقوف يرضي الله، فأرضى الله بوقوفه، وقف وهو سيد الأمة وأكمل الأمة، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه، فما شعر بالغضاضة، ولا شعر بالنقص؛ لأنه يحس أنه يدخل الألفة والمحبة والسرور على أهله، وأنه يترجم بهذا الوقوف عن المحبة الصادقة والزوجية الكاملة، ولذلك كان خير زوجٍ لزوجه صلوات الله وسلامه عليه، ففي هذا أكمل الهدي وأفضله لمن أراد أن يعاشر بالمعروف، كانت تصنع له الطعام والشراب فكان إذا جمعه مع أهله وحِبِّه وزوجه السقف الواحد لا يسمعها كلمةً تكره، تأتيه بالطعام إن وجده خيراً حمده وأثنى وشكر بعد شكر الله، وإن وجد فيه النقص ما ذمه ولا عابه، ولا ذم الذي صنعت وفعلت بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

فالعشرة بالمعروف تحتاج إلى شيء من التضحية، تحتاج إلى شيء من الصدق في المحبة ومبادلة المشاعر، التي تنمي عن الكمال في الزوجية والألفة، ولذلك كان هديه عليه الصلاة والسلام أكمل الهدي، ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام، عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: (كان يُؤتى إليه بالشراب)، تأتي عليه الصلاة والسلام بالمرق أو باللبن، تقول رضي الله عنها، وهو الذي طلب وسأل، تقول رضي الله عنها: (فيقسم عليّ أن أشرب قبله)، لأنها ما كانت لترضى -لأنها كريمة بنت كريم- أن تتقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فحفظت حقه، فإذا أدنته بالشراب، قال لها: اشربي، فأبت، فإذا أبت، حلف عليها، قالت: يُقسم علي، فتأخذ الشراب فتشرب، فيضع فمه حيث وضعت فمها صلوات الله وسلامه عليه. هل هو يريد موضع شربها؟ لا والله، ولكنه يريد أن يشعرها بمكانتها وبالمحبة وبالمودة؛ لأنه كما يتقرب لربه ساجداً وراكعاً يتقرب إلى الله بجبر قلبها، وإدخال السرور عليها، ويتقرب إلى الله بحسن مباسطتها، وبالتشريع للأمة في الكمالات، وبأحسن المعاملات التي تكون بين الأهلين والزوجات، فهذه كلها شئون ينبغي للمسلم أن يجعلها نصب عينيه، وعلى هذا فقد تحتاج المرأة أحياناً إلى إدخال السرور عليها في داخل البيت، فيترسم المسلم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تحتاج إلى إدخال السرور عليها خارج البيت، فيُدخِل السرور عليها، يخرج معها بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه فيسابقها، هي تجري وهو يجري صلوات الله وسلامه عليه، نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه ومع ذلك يسبقها، حتى لما بدنت رضي الله عنها سبقها، فقال لها: (هذه بتلك)، وكل ذلك ملاطفة وإحسان في المعاشرة، والله ما نظرت إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتأملته وأحسنت النظر فيه إلا وجدت المعاشرة بالمعروف في أكمل حللها وأجمل صورها، حيث كان عليه الصلاة والسلام أكمل الأمة في حسن معاشرته لأهله، فلا تستقيم بيوت المسلمين إلا بمثل هذه المشاعر الرقيقة، ولذلك انظر إلى الزوج الذي يعامل زوجته بمثل هذه الأحاسيس، وبمثل هذه المشاعر الصادقة، كيف أن الله عز وجل يبارك له في أهله، ويبارك له في زوجه، فيعيش تلك الحياة السعيدة المطمئنة؛ لأن من اتقى الله وامتثل أمره فعاشر أهله بالمعروف وكل من اتقت الله فعاشرت بعلها بالمعروف جعل الله عاقبة ذلك الحياة الطيبة وحسن العشرة لهما، فلا يسمعان ولا يريان إلا ما يسرهما لا ما يسوءهما، فعلى المسلم أن يمتثل كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تحقيق هذا الواجب العظيم.

وهنا أمرٌ ينبغي التنبيه عليه، وهي مسألة عدم المقابلة والمكافأة في العشرة بالمعروف، من أصعب ما يكون على الزوج أن يبادل زوجه الحنان والرحمة والإحسان، فتقابله بالإساءة والأذية والامتهان والعصيان، ومن أصعب ما يكون أن تقابل المرأة زوجها بالمشاعر الكريمة والأحاسيس الطيبة والأخلاق الحسنة فإذا بها تُقابل بالمشاعر المؤلمة القاسية الجارحة التي تسيء إليها كثيراً، فما هو الواجب على المسلم؟ وما هو الواجب على المسلمة؟ يقول بعض العلماء: أكمل ما يكون الأجر وأعظم ما يكون الثواب في حسن المعاشرة بالمعروف، بل وأصدق ما يكون الزوج معاشراً لأهله بالمعروف إذا قوبل بالإساءة، وأكمل ما تكون المعاشرة من المرأة لزوجها بالمعروف إذا قوبلت بالإساءة، ولذلك قال أحدهم: (يا رسول الله! إن لي رحماً أصلهم ويقطعونني، وأعطيهم ويحرمونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، فقال: إن كنت كما تقول، فكأنما تسفُّهم المَل) أي أنت الرابح، وأنت الذي في غنيمة، فالله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

يا أيها الزوج! إن أحسنت في معاشرتك فأنت تنتظر من الله حسن الثواب، وحسن العاقبة والمآب، ولا تنتظر من هذه المخلوقة شيئاً انتظر من الله، وهذا أمر ينبغي لكل مسلم يريد أن يكسَب الخلق الحسن ألا ينتظر من الآخر شيئاً، من أراد أن يحسن خلقه، وأن يكمُل خلقه فعليه أن يجعل نصب عينيه الله جل جلاله، ويمتثل شرع الله لله، لا من أجل أن يقابل معروفه بالمعروف وإحسانه بالإحسان، لا، وإنما من أجل أن يُقابل بالشكر من الله من فوق سبع سماوات، ومن أجل أن تخط الكلمات والأخلاق الطيبة والمعاشرة الطيبة في صحيفة عمله، فيراها نصب عينيه في يومٍ يبعثر فيه ما في القبور، ويحصّل فيه ما في الصدور، فإذا عمل الإنسان وكانت أخلاقه طيبة وكان زوجاً كريماً ووجد المرأة لئيمة وتؤذيه فليصبر، فلعل الله أن يعوِّضه خيراً.

قال بعض العلماء في قوله تعالى: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]: لما ابتلي زكريا بحرمان الولد، صدع إلى الله بدعواته، كما ذكر الله عز وجل: ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [مريم:2-5]، ناداه وعمره مائة وعشرون عاماً، ما قنط من رحمة الله جل جلاله، فناداه في آخر عمره أن يرزقه الله الولد، فمن كرم الله عز وجل أن الله أعطاه حاجته وزاده، وهكذا على الدوام كل من دعا الله بيقين خاصةً في الكربات والشدائد فإن الله لا يعطيه حاجته فقط، بل يعطيه حاجته وزيادة، ولذلك قال تعالى: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]، أعطاه الولد: وهبه زكريا، وأصلح له زوجه: قال بعض العلماء في هذا: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90]: كانت زوجته تسبه وتؤذيه وكانت سيئة غليظةً عليه فصبر عليها إلى آخر عمره، فعوّضه الله الولد، وحسن الاستقامة من الزوجة، وحسن المعاشرة منها، يقول بعض مشايخنا رحمة الله عليهم: قل أن يؤذى رجل بزوجته في أول حياته إلا عوّضه الله صلاحها في آخر عمره، حتى ذكروا عن بعض الناس أنه ابتلي بزوجة آذته وأضرت به في أول حياته، وشاء الله عز وجل أنه ابتلي بالمرض في آخر عمره، فعطف الله قلبها عليه في آخر العمر، وأصبحت تحن إليه حناناً شديداً، وأصبحت تقوم على شأنه، حتى تخلّى عنه أولاده وإخوانه وعشيرته وقرابته وما بقي معه إلا امرأته، وهذا من الله جل جلاله؛ لأن الله سبحانه وتعالى يكافئ العبد على صبره، فإذا عاشر الرجل امرأته بالمعروف فوجد خيراً فليحمد الله، وإذا وجد غير ذلك فليصبر فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وكذلك المرأة الصالحة لا تنتظر من بعلها إذا عاشرت بالمعروف أن يرد لها معروفها، ولكن تنتظر من الله جل جلاله أن يعوِّض صبرها، وأن يجبر كسرها، وعليها إذا رأت الخير من زوجها أن تحمد، وإن رأت غير ذلك فلتصبر، فإن الله سيعوضها في دينها ودنياها وآخرتها.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الفقه 87 3376 استماع
شرح عمدة الفقه 79 3024 استماع
شرح عمدة الفقه 76 2738 استماع
شرح عمدة الفقه 85 2627 استماع
شرح عمدة الفقه 77 2613 استماع
شرح عمدة الفقه 105 2604 استماع
شرح عمدة الفقه 83 2604 استماع
فقه الأسرة - حقوق الأرحام 2571 استماع
شرح عمدة الفقه 92 2534 استماع
شرح عمدة الفقه 74 2492 استماع