حلاوة الإيمان


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه وبالحق أرسله، فأحيا الله به القلوب، وأنار به السبل والدروب، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين ما آذنت شمس بغروب.

أما بعد:

إخواني في الله! ليس هناك نعمة أعظم من نعمة الإيمان، وليس هناك منة من الله تبارك وتعالى أجل ولا أعظم من منة التوفيق لطاعة الرحمن، الإيمان الذي هو أعظم قضية وأعظم شيء من أجله كان الوجود، الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو الواحد المعبود، من أجله كان الليل والنهار، ومن أجله كان العشي والإبكار، ومن أجله خلقت السماوات والأرض، ومن أجله كان الحساب والسؤال والعرض، الإيمان الذي ما من لحظة من لحظات حياتك، وما من برهة من زمانك إلا وهي مذكرة بهذه القضية العظيمة، ما من حركة في هذا الوجود وما من سكون في هذا الكون إلا وهو يذكرك بالواحد العظيم المحمود، يذكرك بالله الذي لا إله إلا هو المعبود.

قبل ساعات يسيرة كنا في ضياء النهار، وفي هذه اللحظة العجيبة نعيش في هذا الظلام الدامس، وفي هذا الليل البهيم العابس، وهو يذكرك بالله، ويذكرك بأن لا إله إلا الله، هذه السماوات في هذا الليل البهيم قد أشرقت كواكبها واستنارت نجومها لكي تدلك على هذه القضية العظيمة، فبعد ساعات يسيرة إذا بالليل يذكرك بالله، ويؤذنك بأن لا إله إلا الله حتى إذا حان أفوله ودنا ذهابه وزواله فجاء ضياء الفجر وانفجر، وشع ضياء الشمس في الأفق وانتشر، وإذا بدليل جديد يذكر بالعظيم الحميد.

الإيمان الذي كل شيء في هذا الوجود يحققه ويصدقه ويدل عليه، يشهده الإنسان في جميع أحواله وفي جميع أطواره، آيات الزمان وآيات المكان تهديك إلى توحيد العظيم المنان؛ لذلك -أحبتي في الله- ما خلق الله الإنسان إلا من أجل الإيمان، ولا أوجده الله عز وجل إلا من أجله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ما خلق الإنسان إلا لكي يعمر قلبه بتوحيد الواحد الديان، وأسعد لحظة في الحياة والعمر تلك اللحظة التي يحس فيها العبد أنه مؤمن حقاً بالله عز وجل، إن أسعد لحظة في الحياة إذا مُلئ القلب يقيناً بالله عز وجل، وأصبح الفؤاد يعيش مع الإيمان في كل حركة من حركات الإنسان وسكونه، إنه اليقين بالله والإيمان به.

السعادة والشقاء.. الفلاح والطلاح.. الربح والخسارة.. النجاة والهلاك، فما بين العباد وبين الله قضية أعظم من هذه القضية، ولا بين الله وبين العباد شيء يُتقرب به إلا بعد هذا الأساس العظيم، فأعظم ما يَعتني به المؤمن في هذه الحياة هو تغذية قلبه بالإيمان بالله، فما دخل الإيمان قلباً إلا انشرح لله، ولا دخل الإيمان صدراً إلا اطمأن بذكر الله، وليس هناك ساعة أبهج من تلك الساعة التي عرف فيها العبد ربه، ودنا فيها من خالقه فعمَّر قلبه بتوحيده وذل العبودية له سبحانه وتعالى.

هذا الإيمان الذي هو الباب الوحيد بينك وبين الرحمن، له لذة وأثر في القلوب، هذه اللذة هي حلاوته وطلاوته، ما أصابها مؤمن إلا ذاق حلاوة الالتزام، ولا وجدها مؤمن إلا أصاب محبة الرحمن، إن هذه الحلاوة تحتاج من المؤمن -أولاً- إلى جهاد صادق وسير حثيث في طاعة الله ومرضاته، وكل حلاوة لها لذة عند الإنسان بقدر ذلك الشيء الذي يذوق حلاوته، فإذا كان الشيء الذي تُذَاقُ حلاوته هو أعظم الأشياء وأجلها عند رب الأرض والسماء، فهي الحلاوة التي لا ألذ منها؛ إنها حلاوة الإيمان ولذة الطاعة والعبودية للرحمن، التي تجد الإنسان فيها ومعها إذا أصابته الضراء صبر، وإذا أصابته السراء شكر.. حلاوة الإيمان التي إذا ذاقها الإنسان نسي كل لذة من معاصي الله.. إنها حلاوة كانت سبباً في هجران الشهوات وترك الفواحش والمنكرات، والتذلل لله رب الكائنات، فما أعظم سلطان الإيمان على القلوب، وما أجل حلاوة الإيمان في القلوب.

إن لحلاوة الإيمان أمارات وعلامات دل عليها نبينا المصطفى، وحبيب ربنا المجتبى صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب الرجل لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار) ثلاث خصال تحتاج إلى رجال متذللين متعبدين للكريم المتعال، خصلة بينك وبين الله، وخصلة بينك وبين أحباب الله، وخصلة بينك وبين دين الله وشرعه، هذه الثلاث الخصال يعرضها المؤمن على قلبه في كل زمان ومكان، فإن وجدها في فؤاده وفي نفسه أحس بلذة الإيمان، وإن نقصت هذه الخصال نقصت لذة الإيمان في قلبه لا سمح الله.

محبة الله ورسوله

الخصلة الأولى: بينك وبين الله عز وجل وهي: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) والكلام في محبة الله والرسول صلوات الله وسلامه عليه ينحصر في أمرين وثالثهما هو الثمرة.

أما الأمر الأول: فإن العلماء رحمهم الله يقولون: كل محبة من العبد لها سبب، وهذا السبب إما أن يكون دنيوياً محضاً، أو أخروياً محضاً أو جامعاً بين الدنيا والآخرة؛ ولكن محبة الله عز وجل جمعت هذه الثلاثة الأسباب، فمحبة الله تكون لسبب ديني محض وهو: نجاتك في الدنيا والآخرة، وتكون لسبب دنيوي محض فلا سعادة في الحياة إلا بطاعة الله.

ولست أرى السعادة جمع مالٍ ولكن التقي هو السعيد

وتكون جامعة بينهم بما ذكرنا.

أما محبة الله فقد قال العلماء رحمهم الله: إن الأسباب كلها تهيأت من أجلها، فلو أن إنساناً أحب والده لعظيم إحسانه وجليل يده عليه وكريم امتنانه، فكيف بالله جل وعلا الذي ما من طرفة عين إلا وأنت ترفل في نعمة منه لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى؟ إن كانت المحبة للإحسان فأين أنت من إحسان الله؟ وإن كانت المحبة للنعم فأين أنت من نعم الله؟ وإن كانت المحبة لدفع النقم فأين أنت من النقم التي دفعها الله؟

تفكر وتدبر لو أنك في يوم من الأيام قد ضاقت بك السبل وتعسرت عليك الأسباب في دين أو كربة أو هم من الدنيا أو حاجة، فاحتجت إلى من يعينك ويساعدك، وإذا برجل وفي يدنو منك في تلك الساعة العصيبة فمد لك يد المساعدة، وأعطاك ما تحتاجه، لو أن عبداً فعل ذلك لأسرك بمعروفه، ولأصبحت تتحدث بذلك المعروف وتثني عليه ليلاً ونهاراً، وعشياً وإبكاراً، وتثني عليه أمام أبنائك صغاراً وكباراً، فأين نعم الله؟ وأين منن الله؟

كم من كربة فرجها الله عنك، وكم من كربة في ظلمات الليل جاءك السقم والمرض وحولك الأبناء والبنات والإخوان والأخوات، فتألمت وتأوهت، ونظرت يميناً ويساراً فلم تجد معيناً سواه، ولا مجيراً عداه، ولا مغيثاً غيره جل في علاه، فقلت: رباه! رباه! فناديته بقلب لا يعرف سواه، وتعلقت به سبحانه وتعالى، وفي لحظة واحدة آتاك رحمته، وأسداك منته، ففرج عنك الكرب الذي تألمه، وأزال عنك البلاء الذي تجده، فهل ذكرت معروفه يوماً من الأيام؟ وهل أثنيت عليه أمام الأنام؟ وهل ذكرت فضله تبارك الله رب العالمين؟

أحبتي في الله! ليس هناك محبة أصدق من محبة الله عز وجل، وليس هناك أحد يحب على الحقيقة كمحبة العبد لربه، ومهما أحببت شيئاً فأنت مغالٍ فيه إلا الله تبارك الله رب العالمين، فإنك مهما أحببته وأجللته، ومهما أعظمته وأكبرته، فأنت المقصر في حقه سبحانه وتعالى.

محبة الله عز وجل لها أمارات ولها دلائل وعلامات بيّنها العلماء رحمهم الله، ومن أحسن من عبر عن تلك المحبة أحد العلماء رحمهم الله بقوله: (تحصل محبة الله بفعل واجباته وترك مخالفته، فإذا تهيأ للعبد ذلك كان محباً لله) إذا اجتمعت الخصلتان في العبد -فعل فرائض الله وترك محارم الله- فهو حبيب الله عز وجل.

قال بعض العلماء: (يستدل على محبة العبد لله بتوفيق الله عز وجل للعبد لطاعته) وبمقدار ما يقصر العبد في الواجبات وبمقدار ما يقع في فعل المحارم والمنكرات كلما كان ذلك نقصاناً في محبته لله عز وجل، ولذلك ما استقرت محبة الله في قلب عبد إلا وجدته أنشط ما يكون لفعل فرائض الله، وأبعد ما يكون عن حدود الله ومحارم الله عز وجل، فمن أحب الله انتظر في كل لحظة أمراً من أوامره حتى يلبي ذلك الأمر، وانتظر في كل لحظة من لحظاته نهياً من النواهي حتى يتقرب إلى الله عز وجل في ترك ذلك المنهي.

لذلك أحبتي في الله! دلائل محبة الله في هذين الأمرين، وفي تحقيق هاتين الخصلتين: فعل فرائض الله وترك محارم الله، وكلما وقف الإنسان أمام فرضٍ من فرائض الله أو أمام حدٍ من حدود الله فليعلم أنه ممتحن في محبة الله عز وجل.

أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي -بعد محبة الله- أشرف مأمول وأعظم محصول، من وفقه الله لمحبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقد وفقه لطريق من طرق الجنة، فما أحب عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعطش لسنته وتلهف لاتباع أثره، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباعه هي الطريق الوحيد إلى الجنان والفوز بالرضوان؛ ولذلك كما قال بعض العلماء: (إن الله أقفل كل السبل المفضية إليه إلا سبيلاً واحداً وهو الطريق الذي اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم) وقد أشار الله عز وجل إلى هذا المعنى في قوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] إذا أردت أن تعرف مقدار محبة العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى حرصه على السنة علماً وعملاً ودعوة وتطبيقاً؛ ولذلك قال العلماء: (أصدق الناس في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل السنة، العاملون بها الداعون إليها) فإذا أردت أن تعرف صدق محبة الإنسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى خصاله وانظر إلى خلاله، وزِنها بخلال النبي صلى الله عليه وسلم وبآدابه، فإن وجدته يترسم نهجه ويقتفي أثره ويتعطش لمعرفة سنته، فوالله إنه الحبيب ونعم الحبيب، والقريب من الله ونعم القريب؛ لذلك فإن أول ما يعتني به المؤمن الصادق في محبة النبي صلى الله عليه وسلم معرفة السنن والبحث عنها والحرص على العمل بها وتطبيقها، والدعوة إليها ما استطاع لذلك سبيلاً.

حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما توضأ إلا وتذكر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، ولا مد كفه بالماء ولا أدارها على عضو إلا وهو كأنه يلاحظ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه يتوضأ كوضوئه ويغتسل كغسله، حتى إذا دنا من صلاته وعبادته تذكر هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في قيامه.. في قراءته.. في ركوعه.. في سجوده.. في دعائه.. فأخذ يحدوه ويقتفي أثره حذو القذة بالقذة، والله إنه لتوفيق للعبد إذا أراد الله له خيري الدنيا والآخرة أن يلهمه محبة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

حتى إذا أصاب الإنسان هذه الخصلة الكريمة وهي محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، جاءت الثمرة المباركة، فصار لا يمسي ويصبح إلا وقلبه معلق بالله، يقوم لله، ويقعد لله، ويتكلم لله، يراقب الله في حركاته.. في سكونه.. في أنفاسه.. في كلماته، ويترسم كل شيء فيه محبة الله حتى إذا بلغ إلى هذا المقام الشريف وهذا المنزل المنيف وأصاب محبة الله عز وجل، وأصاب رضوان الله سبحانه وتعالى، عندها تأتي الثمرة الثانية التي هي ثمرة محبة الله عز وجل، قال بعض العلماء: (ما أحب مؤمن ربه إلا تعلق بالله في كل شيء يفعله ويقوله) ولذلك أُثر عن القاضي الإمام الجليل الحافظ ابن دقيق العيد رحمة الله عليه: أنه قضى في قضية فراجعه رجل قضى عليه الإمام في تلك القضية، فقال له الرجل: والله ما أنصفتني، ولقد جُرت في حكمك، فقال الإمام الحافظ رحمة الله عليه: أتقول ذلك؟ فوالله الذي لا إله إلا هو ما تكلمت بكلمة منذ أربعين عاماً إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله عز وجل) وهذا إنما يكون من كمال المحبة لله عز وجل؛ ولذلك ذكر بعض العلماء في شرح هذا الحديث: (إن المؤمن إذا عمر قلبه بمحبة الله جاءت الثمرة الثانية وهي أن يحب حبيب الله ويعادي عدو الله، يصبح قلبه ويمسي لا يُقرب إلا من قربه الله، ولا يبعد إلا من أمره الله عز وجل بإبعاده، وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وأن يحب الرجل لا يُحبه إلا لله).

المحبة في الله

الخصلة الثانية: (المحبة في الله) أوثق عُرى الإسلام بعد الإيمان: الحب في الله والبغض في الله عز وجل.

ما هي أسباب المحبة الصادقة؟ ومتى تعلم أنك تحب لله وتعادي لله؟

قال بعض العلماء رحمهم الله: (لن تكون المحبة لله وفي الله إلا إذا كان السبب الباعث إليها هو الله عز وجل) يقولون: يُحب العبد لله إذا نظرت عينه من العبد ما يُرضي الله أو سمعت أذنه من العبد ما يُرضي الله؛ ولذلك إذا كان الإنسان كاملاً في إيمانه ودخل في أي مكان فرأت عينه عبداً لله في طاعة أحبه، وهو لا يعرف اسمه ولا نسبه، ولربما تكون تلك اللحظة التي رآه فيها على طاعة الله هي أول لحظة رآه فيها.

من كمال الإيمان: أن يكون السبب الباعث والداعي إلى المحبة هو الله والدار الآخرة؛ ولذلك هذه العلامة من علامات الإيمان حتى قال بعض العلماء: (إذا أراد الإنسان أن يختبر كمال إيمانه فليختبره بالحب في الله والعداوة في الله) وهذا شيء مشاهد مجرب، جرب يوماً من الأيام لو دخلت المسجد وكان القلب في نشوة من الإيمان فتلتفت يميناً فترى المصلي فتحبه، وتلتفت شمالاً فترى قارئ القرآن فتحبه، وتنظر أمامك فترى إنساناً يذكر الله فتحبه، وهذا من كمال الإيمان، وإذا كان قلبك في ضعف من الإيمان ودخلت المسجد على تلك الحالة دخلت وأنت في سهو وغفلة، ولذلك تجد أحباب الله وأولياءه يجمعهم مجلس كهذا حتى إذا انصرفوا سلم بعضهم على بعض وعانق بعضهم بعضاً؛ لأنهم يعلمون أن الذي حضر هذا المكان يريد الله والدار الآخرة، فما حضره أحد إلا أحبه مؤمن ووالاه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] فالله ألف بين القلوب بالإيمان.

وليس هناك جامعة جمعت بين العباد أطهر وأصدق وأعظم تأثيراً من جامعة الإيمان، التي جمعت في أول الإسلام بين المهاجرين والأنصار، وجمعت في حاضر الإسلام بين عباد الله الأخيار، قلوب تجتمع على إيمانٍ بالله وطاعة لله ورسوله، فنعم القلوب ونعم ما اجتمعت عليه، الناس يجتمعون على الشهوات والملهيات، ولكن من ذاق حلاوة الإيمان يجتمع مع إخوانه على طاعة الله ومحبته، فالدليل الصادق على المحبة في الله أن يكون السبب الداعي إليها طاعة الله ومرضاته.

وقرر بعض العلماء أن الناس في الحب في الله والعداوة في الله على مراتب: فبعض الناس يكون في أعلى مرتبة من المحبة في الله والعداوة في الله، وبعض الناس دون ذلك، ومهما اجتمع الأخيار على قاعدة الحب في الله والموالاة في الله فبين بعضهم بعضاً في هذه القاعدة كما بين السماء والأرض، ولذلك كلما اجتمعت القلوب على طاعة وكانت صادقة في المحبة في الله كلما كانت الألفة بينها، وكثير من الأخيار أول ما اجتمعوا على الحب في الله وكان اجتماعهم صادقاً في الموالاة لله عز وجل، كانت قلوبهم أخشع ما تكون لله عز وجل، ولو نظر الإنسان إلى مجالسه الأولى عند بداية هدايته كيف كانت تلك المجالس، وكيف كان العبد يجلسها قبل أن يجلسها وهو ضعيف إيمان ثم إذا قام منها قام وهو أكمل ما يكون إيماناً.

لذلك فإن الإنسان إذا أحب أخاه في الله ينبغي أن يراقب أحاسيسه ومشاعره في هذه المحبة، ولذلك قال بعض العلماء: (إن الشيطان قد يدخل على الإنسان من باب المحبة في الله، تبدأ محبة في الله ثم تنقص يوماً فيوماً حتى تصبح محبة للدنيا والعياذ بالله) فينبغي لك -أيها الإنسان- إذا أحببت أحداً في الله أن تراقب قلبك كل يوم في تلك المحبة، ولتعلم أنك مأجور على تلك المحبة التي هي من أعمال القلوب، ولن يدعك الشيطان طرفة عين فلربما يكون حبيبك في البداية حبيباً لله عز وجل، فترى يوماً من الأيام غناه أو ترى حسبه أو نسبه أو جاهه فيدخل الشيطان بشعبة من شعب القلب فيفسد تلك المحبة من تلك الشعبة، فتكون البداية رحمة والنهاية عذاب والعياذ بالله.

ينبغي للإنسان -إذا أحب في الله وأراد أن يذوق حلاوة الإيمان بسببها- أن يكون صادقاً في هذه المحبة، وألا يجلس مع أخيه في الله إلا وهو يرجو الله والدار الآخرة.

ولهذه المحبة الصادقة لوازم ذكرها العلماء في خصلتين: الخصلة الأولى: أمر بالمعروف، والخصلة الثانية: نهي عن المنكر، وكل إنسان مهما كان على طاعة واستقامة ومحبة فهو يحتاج إلى إخوانه؛ يحتاج إلى من يُذكره بالله إذا نسي، ويثبته على طاعة الله إذا ذكر، فمن لوازم المحبة في الله أن يعين الأخ أخاه على طاعة الله ومحبته، بل إن بعض العلماء قال: (إن الإنسان لو قال لأخيه: إني أحبك في الله، ثم رأى من أخيه تقصيراً -ولو في ذكر الله- حاسبه الله عن ذلك التقصير والسكوت عنه).

فالمحبة في الله أمر يحتاج إلى تصديق وتحقيق، فلا يكفي قول بعضنا لبعض: إني أحبك في الله، المحبة في الله شهادة على عروة وثقى من عرى الإسلام ينبغي أن تُغذى بطاعة الله ومرضاته.

وقد ذكر الله عز وجل لهذه المحبة آثاراً طيبة؛ من أعظمها: أنها تعين على طاعة الله ومحبته، وأشار إلى ذلك بقوله عن نبيه موسى قال: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا [طه:25-35] فالأخ في الله يعينك على ذكر الله وطاعته الله.

ومن ثمرات الأخوة في الله: أنها أعظم معين على البعد عن محارم الله وحدوده، ولذلك الإنسان إذا حدثته نفسه بشهوته أو حدثته نفسه بأمر بينه وبين الله أن يفعله من معاصي الله فما عليه إلا أن يجلس مع أخ في الله يرهبه من عذاب الله، ويذكره ببطشه الله عز وجل وعقوبته.

كراهة الانتكاس والخوف منه

إذا وفق الله الإنسان بتحقيق هذه الخصلة الثانية من خصال حلاوة الإيمان وهي: الحب في الله، والبغض في الله جاءت الثمرة الثالثة وهي: (أن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يُلقى في النار) أن يكره الانتكاسة، ولذلك إذا دخل الإيمان إلى قلب العبد وصدق في هذا الإيمان، فإن من أبرز الدلائل على صدقه خوفه من الانتكاسة، وكلما وجدت الشاب يخاف من الانتكاسة والرجوع والحور بعد الكور، فإن ذلك دليل على إيمانه، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يخافون النفاق، وقال بعض السلف: (والله ما عرضت قولي وعملي على القرآن إلا اتهمت نفسي بالنفاق) وقال آخر: (والله ما عرضت نفسي على القرآن إلا عددتها من الراسخين في النفاق).

الخوف من الانتكاسة يشمل حالتين:

الحالة الأولى: الخوف من الكفر، وهو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم: (وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار) ولو قيل للإنسان: أتكفر بالله أو تلقى في النار؟ لاختار أن يلقى في النار على الكفر بالله، وهذا لأن الإيمان عمر قلبه وتغلغل في فؤاده.

نسأل الله العظيم أن يبلغنا وإياكم هذه الدرجة، وأن يجعلنا وإياكم في هذه المنزلة، فإن الإنسان لا يأمن من سوء الخاتمة: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ [الأعراف:99] فهذا استفهام يدل على أن الإنسان مهما كان على صلاح لا يأمن من مكر الله، ولذلك قال بعض العلماء: ( كلما ازداد الإنسان صلاحاً وتقوى لله عز وجل، كلما كان أخوف من أن يعود على عقبه فيكون خاسراً) فهذه الخلة وهذه الخصلة تدل على إيمان الإنسان؛ لأنه لما عمر قلبه وذاق حلاوة الإيمان خاف من الضد، ولا يخاف من الكفر إلا المؤمن الصادق في إيمانه، ولذلك نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت إلى لقائه، وأن يجعل الإيمان الذي لامس قلوبنا في زيادة إلى لقائه وألا يبتلينا بالانتكاسة.

والحالة الثانية هي: (الخوف من نقصان الخير)، ولذلك قال بعض العلماء: (من رزقه الله طاعة كقيام الليل وصيام النهار فأصبح يتردى فيها وينتقص فعليه أن يجاهد في الرجوع إليها؛ فإنه لا يؤمن عليه أن يخذله الله عز وجل فيرجع على عقبه خاسراً والعياذ بالله) ولذلك ينبغي للإنسان المؤمن أن يراقب نفسه دائماً في طاعة الله، فإذا كان على خصلة من خصال الخير لا يتركها مهما كان الأمر، والله تعالى يبتلي الإنسان؛ فإن كنت في قيام الليل سخر لك بعض المشاغل وابتلاك ببعض الشواغل، فإن كنت صادقاً في الإيمان وثبت عليها أذاقك بعد ذلك حلاوة الثبات، وقد قال إن بعض العلماء: (إن الإنسان إذا أطاع الله وتقرب إليه بخصلة من خصال الخير فجاءه الشيطان بفتنة، فليعلم أن الله يمتحنه في تلك الخصلة) فما من إنسان يمتحن في خصلة من الطاعات ويثبت عليها بعد امتحانه إلا ذاق حلاوتها إلى لقاء الله غالباً، وقد قال بعض السلف: ( جاهدت نفسي في الصلاة عشرين عاماً فتلذذت بها أربعين عاماً) عشرون عاماً والوساوس والخطرات وشواغل الدنيا تأتيه من كل حدب وصوب، وهو صابر محتسب حتى أذاقه الله حلاوة الصلاة فزالت عنه جميع تلك الخطرات، ولذلك الشاب الملتزم في أول التزامه تأتيه من الوساوس والخطرات مالا يعلمه إلا الله عز وجل، فإذا صبر وصابر واحتسب زالت عنه كما يزول الليل بضياء النهار، وفي بعض الأحيان تزول عنه في لحظة لا يشعر بها، وإذا بقلبه أكمل ما يكون انشراحاً وطاعة لله عز وجل.

الخصلة الأولى: بينك وبين الله عز وجل وهي: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) والكلام في محبة الله والرسول صلوات الله وسلامه عليه ينحصر في أمرين وثالثهما هو الثمرة.

أما الأمر الأول: فإن العلماء رحمهم الله يقولون: كل محبة من العبد لها سبب، وهذا السبب إما أن يكون دنيوياً محضاً، أو أخروياً محضاً أو جامعاً بين الدنيا والآخرة؛ ولكن محبة الله عز وجل جمعت هذه الثلاثة الأسباب، فمحبة الله تكون لسبب ديني محض وهو: نجاتك في الدنيا والآخرة، وتكون لسبب دنيوي محض فلا سعادة في الحياة إلا بطاعة الله.

ولست أرى السعادة جمع مالٍ ولكن التقي هو السعيد

وتكون جامعة بينهم بما ذكرنا.

أما محبة الله فقد قال العلماء رحمهم الله: إن الأسباب كلها تهيأت من أجلها، فلو أن إنساناً أحب والده لعظيم إحسانه وجليل يده عليه وكريم امتنانه، فكيف بالله جل وعلا الذي ما من طرفة عين إلا وأنت ترفل في نعمة منه لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى؟ إن كانت المحبة للإحسان فأين أنت من إحسان الله؟ وإن كانت المحبة للنعم فأين أنت من نعم الله؟ وإن كانت المحبة لدفع النقم فأين أنت من النقم التي دفعها الله؟

تفكر وتدبر لو أنك في يوم من الأيام قد ضاقت بك السبل وتعسرت عليك الأسباب في دين أو كربة أو هم من الدنيا أو حاجة، فاحتجت إلى من يعينك ويساعدك، وإذا برجل وفي يدنو منك في تلك الساعة العصيبة فمد لك يد المساعدة، وأعطاك ما تحتاجه، لو أن عبداً فعل ذلك لأسرك بمعروفه، ولأصبحت تتحدث بذلك المعروف وتثني عليه ليلاً ونهاراً، وعشياً وإبكاراً، وتثني عليه أمام أبنائك صغاراً وكباراً، فأين نعم الله؟ وأين منن الله؟

كم من كربة فرجها الله عنك، وكم من كربة في ظلمات الليل جاءك السقم والمرض وحولك الأبناء والبنات والإخوان والأخوات، فتألمت وتأوهت، ونظرت يميناً ويساراً فلم تجد معيناً سواه، ولا مجيراً عداه، ولا مغيثاً غيره جل في علاه، فقلت: رباه! رباه! فناديته بقلب لا يعرف سواه، وتعلقت به سبحانه وتعالى، وفي لحظة واحدة آتاك رحمته، وأسداك منته، ففرج عنك الكرب الذي تألمه، وأزال عنك البلاء الذي تجده، فهل ذكرت معروفه يوماً من الأيام؟ وهل أثنيت عليه أمام الأنام؟ وهل ذكرت فضله تبارك الله رب العالمين؟

أحبتي في الله! ليس هناك محبة أصدق من محبة الله عز وجل، وليس هناك أحد يحب على الحقيقة كمحبة العبد لربه، ومهما أحببت شيئاً فأنت مغالٍ فيه إلا الله تبارك الله رب العالمين، فإنك مهما أحببته وأجللته، ومهما أعظمته وأكبرته، فأنت المقصر في حقه سبحانه وتعالى.

محبة الله عز وجل لها أمارات ولها دلائل وعلامات بيّنها العلماء رحمهم الله، ومن أحسن من عبر عن تلك المحبة أحد العلماء رحمهم الله بقوله: (تحصل محبة الله بفعل واجباته وترك مخالفته، فإذا تهيأ للعبد ذلك كان محباً لله) إذا اجتمعت الخصلتان في العبد -فعل فرائض الله وترك محارم الله- فهو حبيب الله عز وجل.

قال بعض العلماء: (يستدل على محبة العبد لله بتوفيق الله عز وجل للعبد لطاعته) وبمقدار ما يقصر العبد في الواجبات وبمقدار ما يقع في فعل المحارم والمنكرات كلما كان ذلك نقصاناً في محبته لله عز وجل، ولذلك ما استقرت محبة الله في قلب عبد إلا وجدته أنشط ما يكون لفعل فرائض الله، وأبعد ما يكون عن حدود الله ومحارم الله عز وجل، فمن أحب الله انتظر في كل لحظة أمراً من أوامره حتى يلبي ذلك الأمر، وانتظر في كل لحظة من لحظاته نهياً من النواهي حتى يتقرب إلى الله عز وجل في ترك ذلك المنهي.

لذلك أحبتي في الله! دلائل محبة الله في هذين الأمرين، وفي تحقيق هاتين الخصلتين: فعل فرائض الله وترك محارم الله، وكلما وقف الإنسان أمام فرضٍ من فرائض الله أو أمام حدٍ من حدود الله فليعلم أنه ممتحن في محبة الله عز وجل.

أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي -بعد محبة الله- أشرف مأمول وأعظم محصول، من وفقه الله لمحبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقد وفقه لطريق من طرق الجنة، فما أحب عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعطش لسنته وتلهف لاتباع أثره، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباعه هي الطريق الوحيد إلى الجنان والفوز بالرضوان؛ ولذلك كما قال بعض العلماء: (إن الله أقفل كل السبل المفضية إليه إلا سبيلاً واحداً وهو الطريق الذي اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم) وقد أشار الله عز وجل إلى هذا المعنى في قوله: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153] إذا أردت أن تعرف مقدار محبة العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى حرصه على السنة علماً وعملاً ودعوة وتطبيقاً؛ ولذلك قال العلماء: (أصدق الناس في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل السنة، العاملون بها الداعون إليها) فإذا أردت أن تعرف صدق محبة الإنسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى خصاله وانظر إلى خلاله، وزِنها بخلال النبي صلى الله عليه وسلم وبآدابه، فإن وجدته يترسم نهجه ويقتفي أثره ويتعطش لمعرفة سنته، فوالله إنه الحبيب ونعم الحبيب، والقريب من الله ونعم القريب؛ لذلك فإن أول ما يعتني به المؤمن الصادق في محبة النبي صلى الله عليه وسلم معرفة السنن والبحث عنها والحرص على العمل بها وتطبيقها، والدعوة إليها ما استطاع لذلك سبيلاً.

حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما توضأ إلا وتذكر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، ولا مد كفه بالماء ولا أدارها على عضو إلا وهو كأنه يلاحظ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه يتوضأ كوضوئه ويغتسل كغسله، حتى إذا دنا من صلاته وعبادته تذكر هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في قيامه.. في قراءته.. في ركوعه.. في سجوده.. في دعائه.. فأخذ يحدوه ويقتفي أثره حذو القذة بالقذة، والله إنه لتوفيق للعبد إذا أراد الله له خيري الدنيا والآخرة أن يلهمه محبة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

حتى إذا أصاب الإنسان هذه الخصلة الكريمة وهي محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، جاءت الثمرة المباركة، فصار لا يمسي ويصبح إلا وقلبه معلق بالله، يقوم لله، ويقعد لله، ويتكلم لله، يراقب الله في حركاته.. في سكونه.. في أنفاسه.. في كلماته، ويترسم كل شيء فيه محبة الله حتى إذا بلغ إلى هذا المقام الشريف وهذا المنزل المنيف وأصاب محبة الله عز وجل، وأصاب رضوان الله سبحانه وتعالى، عندها تأتي الثمرة الثانية التي هي ثمرة محبة الله عز وجل، قال بعض العلماء: (ما أحب مؤمن ربه إلا تعلق بالله في كل شيء يفعله ويقوله) ولذلك أُثر عن القاضي الإمام الجليل الحافظ ابن دقيق العيد رحمة الله عليه: أنه قضى في قضية فراجعه رجل قضى عليه الإمام في تلك القضية، فقال له الرجل: والله ما أنصفتني، ولقد جُرت في حكمك، فقال الإمام الحافظ رحمة الله عليه: أتقول ذلك؟ فوالله الذي لا إله إلا هو ما تكلمت بكلمة منذ أربعين عاماً إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله عز وجل) وهذا إنما يكون من كمال المحبة لله عز وجل؛ ولذلك ذكر بعض العلماء في شرح هذا الحديث: (إن المؤمن إذا عمر قلبه بمحبة الله جاءت الثمرة الثانية وهي أن يحب حبيب الله ويعادي عدو الله، يصبح قلبه ويمسي لا يُقرب إلا من قربه الله، ولا يبعد إلا من أمره الله عز وجل بإبعاده، وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وأن يحب الرجل لا يُحبه إلا لله).

الخصلة الثانية: (المحبة في الله) أوثق عُرى الإسلام بعد الإيمان: الحب في الله والبغض في الله عز وجل.

ما هي أسباب المحبة الصادقة؟ ومتى تعلم أنك تحب لله وتعادي لله؟

قال بعض العلماء رحمهم الله: (لن تكون المحبة لله وفي الله إلا إذا كان السبب الباعث إليها هو الله عز وجل) يقولون: يُحب العبد لله إذا نظرت عينه من العبد ما يُرضي الله أو سمعت أذنه من العبد ما يُرضي الله؛ ولذلك إذا كان الإنسان كاملاً في إيمانه ودخل في أي مكان فرأت عينه عبداً لله في طاعة أحبه، وهو لا يعرف اسمه ولا نسبه، ولربما تكون تلك اللحظة التي رآه فيها على طاعة الله هي أول لحظة رآه فيها.

من كمال الإيمان: أن يكون السبب الباعث والداعي إلى المحبة هو الله والدار الآخرة؛ ولذلك هذه العلامة من علامات الإيمان حتى قال بعض العلماء: (إذا أراد الإنسان أن يختبر كمال إيمانه فليختبره بالحب في الله والعداوة في الله) وهذا شيء مشاهد مجرب، جرب يوماً من الأيام لو دخلت المسجد وكان القلب في نشوة من الإيمان فتلتفت يميناً فترى المصلي فتحبه، وتلتفت شمالاً فترى قارئ القرآن فتحبه، وتنظر أمامك فترى إنساناً يذكر الله فتحبه، وهذا من كمال الإيمان، وإذا كان قلبك في ضعف من الإيمان ودخلت المسجد على تلك الحالة دخلت وأنت في سهو وغفلة، ولذلك تجد أحباب الله وأولياءه يجمعهم مجلس كهذا حتى إذا انصرفوا سلم بعضهم على بعض وعانق بعضهم بعضاً؛ لأنهم يعلمون أن الذي حضر هذا المكان يريد الله والدار الآخرة، فما حضره أحد إلا أحبه مؤمن ووالاه: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71] فالله ألف بين القلوب بالإيمان.

وليس هناك جامعة جمعت بين العباد أطهر وأصدق وأعظم تأثيراً من جامعة الإيمان، التي جمعت في أول الإسلام بين المهاجرين والأنصار، وجمعت في حاضر الإسلام بين عباد الله الأخيار، قلوب تجتمع على إيمانٍ بالله وطاعة لله ورسوله، فنعم القلوب ونعم ما اجتمعت عليه، الناس يجتمعون على الشهوات والملهيات، ولكن من ذاق حلاوة الإيمان يجتمع مع إخوانه على طاعة الله ومحبته، فالدليل الصادق على المحبة في الله أن يكون السبب الداعي إليها طاعة الله ومرضاته.

وقرر بعض العلماء أن الناس في الحب في الله والعداوة في الله على مراتب: فبعض الناس يكون في أعلى مرتبة من المحبة في الله والعداوة في الله، وبعض الناس دون ذلك، ومهما اجتمع الأخيار على قاعدة الحب في الله والموالاة في الله فبين بعضهم بعضاً في هذه القاعدة كما بين السماء والأرض، ولذلك كلما اجتمعت القلوب على طاعة وكانت صادقة في المحبة في الله كلما كانت الألفة بينها، وكثير من الأخيار أول ما اجتمعوا على الحب في الله وكان اجتماعهم صادقاً في الموالاة لله عز وجل، كانت قلوبهم أخشع ما تكون لله عز وجل، ولو نظر الإنسان إلى مجالسه الأولى عند بداية هدايته كيف كانت تلك المجالس، وكيف كان العبد يجلسها قبل أن يجلسها وهو ضعيف إيمان ثم إذا قام منها قام وهو أكمل ما يكون إيماناً.

لذلك فإن الإنسان إذا أحب أخاه في الله ينبغي أن يراقب أحاسيسه ومشاعره في هذه المحبة، ولذلك قال بعض العلماء: (إن الشيطان قد يدخل على الإنسان من باب المحبة في الله، تبدأ محبة في الله ثم تنقص يوماً فيوماً حتى تصبح محبة للدنيا والعياذ بالله) فينبغي لك -أيها الإنسان- إذا أحببت أحداً في الله أن تراقب قلبك كل يوم في تلك المحبة، ولتعلم أنك مأجور على تلك المحبة التي هي من أعمال القلوب، ولن يدعك الشيطان طرفة عين فلربما يكون حبيبك في البداية حبيباً لله عز وجل، فترى يوماً من الأيام غناه أو ترى حسبه أو نسبه أو جاهه فيدخل الشيطان بشعبة من شعب القلب فيفسد تلك المحبة من تلك الشعبة، فتكون البداية رحمة والنهاية عذاب والعياذ بالله.

ينبغي للإنسان -إذا أحب في الله وأراد أن يذوق حلاوة الإيمان بسببها- أن يكون صادقاً في هذه المحبة، وألا يجلس مع أخيه في الله إلا وهو يرجو الله والدار الآخرة.

ولهذه المحبة الصادقة لوازم ذكرها العلماء في خصلتين: الخصلة الأولى: أمر بالمعروف، والخصلة الثانية: نهي عن المنكر، وكل إنسان مهما كان على طاعة واستقامة ومحبة فهو يحتاج إلى إخوانه؛ يحتاج إلى من يُذكره بالله إذا نسي، ويثبته على طاعة الله إذا ذكر، فمن لوازم المحبة في الله أن يعين الأخ أخاه على طاعة الله ومحبته، بل إن بعض العلماء قال: (إن الإنسان لو قال لأخيه: إني أحبك في الله، ثم رأى من أخيه تقصيراً -ولو في ذكر الله- حاسبه الله عن ذلك التقصير والسكوت عنه).

فالمحبة في الله أمر يحتاج إلى تصديق وتحقيق، فلا يكفي قول بعضنا لبعض: إني أحبك في الله، المحبة في الله شهادة على عروة وثقى من عرى الإسلام ينبغي أن تُغذى بطاعة الله ومرضاته.

وقد ذكر الله عز وجل لهذه المحبة آثاراً طيبة؛ من أعظمها: أنها تعين على طاعة الله ومحبته، وأشار إلى ذلك بقوله عن نبيه موسى قال: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا [طه:25-35] فالأخ في الله يعينك على ذكر الله وطاعته الله.

ومن ثمرات الأخوة في الله: أنها أعظم معين على البعد عن محارم الله وحدوده، ولذلك الإنسان إذا حدثته نفسه بشهوته أو حدثته نفسه بأمر بينه وبين الله أن يفعله من معاصي الله فما عليه إلا أن يجلس مع أخ في الله يرهبه من عذاب الله، ويذكره ببطشه الله عز وجل وعقوبته.