خطب ومحاضرات
الابتداع في دين الله [1]
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
السؤال: ما رأيكم في هذه العبارة التي قررها كاتب إسلامي كبير، قال هذا الكاتب: والبدعة الإضافية والتّركية، والالتزام بها في العبادات المطلقة خلاف فقهي، لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل؟
الضابط الأول: عدم الإنكار على المخالف في الفروع الفقهية
فأقول: إن هؤلاء الصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة، ولكن نلاحظ أن هذا الاختلاف لم يتعد الخلافات التي يسمونها بالفروع الفقهية، ولم يتعد إلى الاختلافات الاعتقادية الفكرية، وهذا من فضل الصحابة.
فهؤلاء لما اختلفوا في بعض المسائل الفقهية لم يعاد بعضهم بعضاً، مثلاً: منهم من تمسك بقول الإمام أبي حنيفة، فقال: خروج الدم ينقض الوضوء. وفيهم من تمسك بقول الإمام الشافعي فقال: مس المرأة ينقض الوضوء. ونحو ذلك من الاختلافات، ولكن هل وصل الأمر بذاك الصحابي الذي يرى بأن خروج الدم ينقض الوضوء باجتهاد منه، ألا يصلي وراء أخيه الصحابي الذي يراه توضأ ثم خرج منه دم ولم يعد الوضوء كما نفعل نحن اليوم؟
الجواب: لا والله، لم يؤدِ بهم الاختلاف إلى هذا الشقاق وهذا التنازع والتنافر.
إذاً: إذا كان لابد من الاختلاف؛ لأن الله فرض ذلك على الناس، بسبب أنه جعل لكل منهم طاقة فكرية وعلمية خاصة به، تختلف عن طاقات الآخرين.
نقول: هذا الخلاف أمر طبيعي وفطري لابد منه، ولكن ينبغي ألا يكون هذا الاختلاف سبباً للنزاع والشقاق، ومنه هذا الذي نهى عنه ربنا عز وجل في قوله: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32] هذا الذي نهى عنه ربنا عز وجل، لكن لم ينه أن الإنسان لاجتهاده إذا وصل إلى رأي خالف فيه رأي الآخر، ولم يصدم برأيه نصاً، كما يفعل المتأخرون المقلدون اليوم.
هذه ضابطة لابد منها قبل الدخول للإجابة عن السؤال مباشرة.
الضابط الثاني: حقيقة المخالف ودرجته العلمية
إن الكاتب المشار إليه يقول: البدعة الإضافية والتركية والالتزام بها في العبادات المطلقة خلافٌ فقهي.
الخلاف الفقهي هل هو إذا كان هناك مجتهد بل مجتهدون لهم رأي متفقون عليه، ثم جاء بعض المقلدين فبنوا رأياً لهم، ثم جاء بعض المتأخرين فقالوا: الخلاف فقهي. وهذا تعبير غير علمي صحيح، فالخلاف الفقهي هو الذي يكون مداره بين الأئمة المجتهدين، الذين هم في أنفسهم -قبل أن يشهد لهم الناس- يشعرون بأنهم قد بلغوا من المنزلة في العلم تمكنهم بأن يقول أحدهم: أنا أرى كذا، أنا أفهم كذا. ثم شهد الناس -فيما بعد- لهم بأنهم قد وصلوا هذه المرتبة، وهذه الشهادة ليست هي التي بررت لهم ذلك، وإنما هذه الشهادة تكشف عن حقيقة ما وصلوا إليه من المرتبة في العلم.
أما إذا كان الذين اختلفوا أو خالفوا ليسوا من المجتهدين في واقع أنفسهم، بل هم يصرحون للناس بأنهم ليسوا كذلك، بل وأكثر من ذلك يفخرون بأنهم ليسوا مجتهدين، وإن كانوا لا يفصحون هذا الإفصاح، لكننا إذا فسرنا قول بعضهم حينما يفخرون بأنهم مقلدون، فتفسير ذلك أنهم يفخرون بأنهم غير مجتهدين، ولا فرق حين ذلك في التعبير إلا فرقاً لفظياً، كذلك الفرق على مذهب الحنفية، أو عند الحنفية... المعنى واحد، فهؤلاء الذين يفخرون بأنهم مقلدون، ذلك يساوي أنهم يفخرون بأنهم غير مجتهدين، وهذا يساوي في نهاية المطاف أنهم يفخرون بأنهم غير علماء، وهذا يساوي أنهم جهال.
الجواب: جواباً على هذه العبارة أقول: لا شك أن المسائل الخلافية ينبغي ألا يشتد الخلاف فيها، بحيث أن المختلفين يتخاصمون من أجل الخلاف؛ ذلك لأن الخلاف أمر طبيعي، أي: من السُنن الكونية التي فرضها الله عز وجل على الناس فرضاً، ولو استطاعوا أن يكونوا كلهم على فكرة واحدة ورأي واحد لاستحال ذلك عليهم، لكن ليس مستحيلاً أبداً أنهم حينما يختلفون فيما لابد من الاختلاف فيه، ألا يحملهم هذا الاختلاف على التباغض والتباعد والخصام والتعادي، فهذا بالإمكان ألا يقعوا فيه، وأسوتهم في ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهم كما سمعتم في الحديث السابق: (خير الناس قرني) فهم خير الناس من بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، وإخوانه من الأنبياء المتقدمين.
فأقول: إن هؤلاء الصحابة اختلفوا في مسائل كثيرة، ولكن نلاحظ أن هذا الاختلاف لم يتعد الخلافات التي يسمونها بالفروع الفقهية، ولم يتعد إلى الاختلافات الاعتقادية الفكرية، وهذا من فضل الصحابة.
فهؤلاء لما اختلفوا في بعض المسائل الفقهية لم يعاد بعضهم بعضاً، مثلاً: منهم من تمسك بقول الإمام أبي حنيفة، فقال: خروج الدم ينقض الوضوء. وفيهم من تمسك بقول الإمام الشافعي فقال: مس المرأة ينقض الوضوء. ونحو ذلك من الاختلافات، ولكن هل وصل الأمر بذاك الصحابي الذي يرى بأن خروج الدم ينقض الوضوء باجتهاد منه، ألا يصلي وراء أخيه الصحابي الذي يراه توضأ ثم خرج منه دم ولم يعد الوضوء كما نفعل نحن اليوم؟
الجواب: لا والله، لم يؤدِ بهم الاختلاف إلى هذا الشقاق وهذا التنازع والتنافر.
إذاً: إذا كان لابد من الاختلاف؛ لأن الله فرض ذلك على الناس، بسبب أنه جعل لكل منهم طاقة فكرية وعلمية خاصة به، تختلف عن طاقات الآخرين.
نقول: هذا الخلاف أمر طبيعي وفطري لابد منه، ولكن ينبغي ألا يكون هذا الاختلاف سبباً للنزاع والشقاق، ومنه هذا الذي نهى عنه ربنا عز وجل في قوله: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الروم:31-32] هذا الذي نهى عنه ربنا عز وجل، لكن لم ينه أن الإنسان لاجتهاده إذا وصل إلى رأي خالف فيه رأي الآخر، ولم يصدم برأيه نصاً، كما يفعل المتأخرون المقلدون اليوم.
هذه ضابطة لابد منها قبل الدخول للإجابة عن السؤال مباشرة.
ضابطة أخرى: الذين قد يختلفون من هم؟ هذه نقطة مهمة جداً لنفهم الجواب عن هذا السؤال.
إن الكاتب المشار إليه يقول: البدعة الإضافية والتركية والالتزام بها في العبادات المطلقة خلافٌ فقهي.
الخلاف الفقهي هل هو إذا كان هناك مجتهد بل مجتهدون لهم رأي متفقون عليه، ثم جاء بعض المقلدين فبنوا رأياً لهم، ثم جاء بعض المتأخرين فقالوا: الخلاف فقهي. وهذا تعبير غير علمي صحيح، فالخلاف الفقهي هو الذي يكون مداره بين الأئمة المجتهدين، الذين هم في أنفسهم -قبل أن يشهد لهم الناس- يشعرون بأنهم قد بلغوا من المنزلة في العلم تمكنهم بأن يقول أحدهم: أنا أرى كذا، أنا أفهم كذا. ثم شهد الناس -فيما بعد- لهم بأنهم قد وصلوا هذه المرتبة، وهذه الشهادة ليست هي التي بررت لهم ذلك، وإنما هذه الشهادة تكشف عن حقيقة ما وصلوا إليه من المرتبة في العلم.
أما إذا كان الذين اختلفوا أو خالفوا ليسوا من المجتهدين في واقع أنفسهم، بل هم يصرحون للناس بأنهم ليسوا كذلك، بل وأكثر من ذلك يفخرون بأنهم ليسوا مجتهدين، وإن كانوا لا يفصحون هذا الإفصاح، لكننا إذا فسرنا قول بعضهم حينما يفخرون بأنهم مقلدون، فتفسير ذلك أنهم يفخرون بأنهم غير مجتهدين، ولا فرق حين ذلك في التعبير إلا فرقاً لفظياً، كذلك الفرق على مذهب الحنفية، أو عند الحنفية... المعنى واحد، فهؤلاء الذين يفخرون بأنهم مقلدون، ذلك يساوي أنهم يفخرون بأنهم غير مجتهدين، وهذا يساوي في نهاية المطاف أنهم يفخرون بأنهم غير علماء، وهذا يساوي أنهم جهال.
إذا عرفنا هذه الحقيقة، ولا مجال لأحدٍ أبداً إلى إنكارها، حينئذٍ أين هذا الخلاف الفقهي؟ من هم الأئمة المجتهدون الذين قالوا بأن هناك في الدين بدعة حسنة؟ أما أن هناك مِن المقلدين من استدل على ما ذهب إليه من استحسان البدعة في الدين واحتج برأي إمام، فأبداً لا يوجد لديهم أثر واحد عن إمام من الأئمة المجتهدين، لا سيما حينما يحصرون الأئمة الأربعة فقط.
إذاً: غرضي من هذا لفت النظر إلى أن هذا الكاتب لم يكن تعبيره تعبيراً علمياً دقيقاً؛ لأنه حشر في جملة العلماء هؤلاء المقلدين الذين هم يتبرءون من أن يكونوا من العلماء، هذا لازمهم شاءوا أم أبوا، وما دام أنهم يعترفون بأنهم مقلدون فهم ليسوا بعلماء، وهم يقولون ذلك.
ما هي وظيفة المقلد؟ هذه حقائق نستطيع أن نجابه بها أكبر مقلد، إذا كان هناك مقلد -كبير أو صغير- فنقول حينذاك: الذي يزعم بأن في مسألة الابتداع خلافاً فقهياً، فمن هم العلماء والفقهاء حقيقة الذين قالوا: إن البدعة في الدين تنقسم إلى بدعة حسنة، وإلى بدعة سيئة؟ هذه واحدة.
والأخرى نطالبهم بالإتيان ببعض الأمثلة مما استحسنها وابتدعها أولئك الأئمة الذين يزعمون أنهم يتمسكون بأقوالهم، لو سألنا اليوم مشايخ التقليد: هاتوا مثالاً من البدعة الحسنة، لملئوا كتباً ومجلدات لإحصائها، كثيرة وكثيرة جداً، فهاتوا عشر بدع فقط عن إمام من أئمة المسلمين الذين تنتمون إليهم قال: هذه بدعة حسنة، وليس عليها دليل من الكتاب والسنة؛ لأن هنا تفصيلاً ذكرناه مراراً، ليس كل شيء حدث مجرد حدوث ووقوع بعد الرسول يكون بدعة، وإنما هذا بشرط: ألا يكون عليه دليل من الكتاب والسنة، ومن هنا يخطئ المتأخرون الذين يذهبون إلى تقسيم البدعة إلى خمسة أقسام، فيقولون:
بدعة فرض: ومثالها: جمع القرآن -عياذاً بالله- جمع القرآن بدعة؟! لماذا يقولون هكذا؟ لأن الجمع وقع بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، الجمع الصوري بكيفية معينة وقع بعد الرسول، مثل: الطباعة الآن، الطباعة ما كانت في زمن الرسول، فما نسميها بدعة، وهذه لها فصل وباب خاص في علم الأصول هو باب: المصالح المرسلة، فهذا من المصالح المرسلة، فيقولون: جمع القرآن بدعة، ويقولون: جمع عمر بن الخطاب الصحابة على التراويح بدعة، وقد يقولون -أقول هذا بتحفظ- إخراج عمر بن الخطاب اليهود من خيبر بدعة، مع أن هذه الأشياء عليها نصوص صريحة، التراويح تكلمنا عليها مراراً وتكراراً، فقد سنها الرسول بفعله، وحض عليها بقوله، وقال للذي يصلي صلاة القيام في رمضان مع الإمام وصلاة الفجر مع الإمام فكأنما قام الليل كله، مع ذلك يقال: إن جمع الناس على التراويح بدعة! فهذا أحد شيئين:
إما أنهم يجهلون هذه السنن فيسمونها بغير اسمها، وهذا موضوع ينزع من البعيدين عن التفقه بالكتاب والسنة، أو إنهم -وهذا خير الظنين بهم- يسمونها بذلك مجازاً كما وقع من بعض السلف، فـعمر بن الخطاب -مثلاً- سمى التراويح بدعة حين قال: [نعمت البدعة هذه]، وهو لا يعني البدعة التي أطلقها المتأخرون: بدعة في الدين، وهو إحداث عبادة على غير مثال سابق، لا من فعله عليه الصلاة والسلام ولا من قوله.
إذاً: في هذه الجملة: خلاف فقهي، تسامح في التعبير؛ لأن هذا الخلاف ليس قائماً بين المجتهدين، وإنما هو قائم بين المجتهدين والمقلدين، والمقلد لا رأي له بشهادتهم أنفسهم، فلا قيمة لقول أحدهم في رأيه واجتهاده أبداً.
بعد تحرير الكلام على هذه الجملة: (خلاف فقهي) وأنه لا يسع أن يقال في مسألة الابتداع في الدين: اختلاف فقهي؛ لأن هذا خلاف حادث، ولا قيمة لخلاف حادث مخالف لاتفاق سابق، فالصحابة كلهم متفقون على أن البدعة في الدين ضلالة.
أولاً: قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم..)
من هنا يظهر لكم علم أحد الأئمة الأربعة الذين ينتمي إليهم جماهيرنا اليوم حين قال: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خان الرسالة، اقرءوا قول الله تبارك وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] قال: فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً.
نحن نقول هكذا، فإذا أراد أحد المقلدين أن يجادلنا فبالله عليكم بماذا يجادلنا؟ فإن جاءنا بنقل عن إمام كما يقولون: إن أبا حنيفة قال بالاستحسان، والاستحسان لا يعني الاستحسان بمعنى الابتداع في الدين أبداً، وإنما هو ترجيح دليل على دليل، لوجود نصها أو ما شابه ذلك كما هو مذكور في أصولهم، فالغرض إن جاءنا مقلد بقول إمام فضلاً عن قول مقلد من مشايخهم، فنقول له: إمام من أئمة السنة وإمام دار الهجرة يقول: فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً، نحن نقول: يومئذٍ لم يكن من الدين أن يصعد المؤذن المنبر وينشد ويتكلم بكلام غير جائز قبل الأذان، ما كان هذا باعترافهم، لذلك يسمونها بدعة، أي: حدثت لكنها حسنة، ولا أيضاً ما أضافوه بعد الأذان من الصلاة على الرسول عليه السلام، ومن أشياء أخرى أيضاً يضيفونها، كل هذا وهذا لم يكن.
فـمالك يقول: فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً، إذاً: أذن كأذان بلال وغيره من مؤذني الرسول صلى الله عليه وسلم.
سوف يقول: أنا مذهبي هكذا.. دعك أنت ومذهبك، فلماذا تجادل بالباطل وبالجهل؟ تريد أن تبحث على ضوء الكتاب والسنة تعال إلى الكتاب والسنة، هذه أول آية، وهذا تفسيرها لإمام دار الهجرة، الذي بينه وبين الصحابي واسطة واحدة، مالك عن نافع عن ابن عمر، وعاش في عقر دار السنة المدينة المنورة، يقول: من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، اقرءوا قول الله تبارك وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3] فما لم يكن يومئذٍ ديناً لا يكون اليوم ديناً.
لكن مالك رحمه الله جاء بخاتمة قاسمة في الجملة، التي تستحق أن تُكتب بماء الذهب -كما يقولون- ونحن نعتبر هذه الجملة من منهجنا في الدعوة، بينما الذي يقول هذا الكلام وغيره لا يرفعون لهذه الجملة وزناً، يقول مالك: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. فهل صلاح هذه الأمة بأن تتقرب إلى الله بمئات بل ألوف من البدع؟! يستحيل هذا! وهو من باب:
وداوني بالتي هي داء |
العبادات التي شرعها الله هي معالجة لأمراض نفسية، قد يشفى بها بعض الناس وقد لا يشفى جمهورهم، فتأتي هذه التشاريع الإلهية الحكيمة كمرهم وعلاج لهذه الأمراض النفسية.
وعلى العكس من ذلك؛ حينما نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ونقيم البدعة مقام السنة، زدنا مرضاً على مرض، بحيث أننا نصل إلى اليأس من الشفاء، لذلك فمن منهجنا نحن الدعاة إلى الكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح: -الذي يدل على هذا المنهج- كلمة الإمام مالك هذه: ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
وتأكيداً لما نقول؛ فهناك جماعات إسلامية كثيرة وكثيرة جداً، فهل هناك جماعة تسعى لتنوير بصائر المسلمين، لكي يهتدوا بهذا المنهج السليم، وهو أنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؟
الجواب: لا يوجد -مع الأسف- جماعات إسلامية، لا اسمها ولا وزنها في العالم الإسلامي يدندن حول موضوع الاتباع للكتاب والسنة، ليس اتباعاً لفظياً، قلنا لكم مراراً وتكراراً: كل الطوائف الإسلامية التي بلغت ثلاثاً وسبعين فرقة أو زادت، كلها تقول: الكتاب والسنة، لكن المهم في الكتاب والسنة:
أولاً: تطبيق عملي.
وثانياً: فهم سليم لما كان عليه السلف الصالح.
فهنا يقول: إن في هذه المسألة خلافاً فقهياً، وكل واحد وما ذهب إليه دليله.
إذاً: هذه الآية من أدلة العلماء من السلف الصالح من الصحابة والتابعين، الذين ذهبوا إلى أنه لا بدعة في الإسلام.
ثانياً: حديث: (خير الكلام كلام الله.. وكل بدعة ضلالة)
من عجائب الأمور التي نلاحظها، والتي تؤكد لنا صحة منهجنا وخطأ منهج غيرنا: أنك لا تجد خطيباً من الخطباء يحافظ في خطبته على هذه الخطبة، التي هي من خطبة الحاجة التي كان نبينا عليه الصلاة والسلام يحافظ عليها دائماً وأبداً، لماذا؟ لأن أبسط إنسان سيقول له: من صعود الخطيب إلى خروجه من الصلاة كلها بدع وخلاف هدي الرسول، وهذا الذي أنت تدعو إليه، ولذلك الشيطان أوحى إليهم: كونوا متجاوبين، لا تكونوا متنافرين في أنفسكم، تصعد إلى المنبر تخطب: خير الكلام كلام الله، وتختمها: وكل ضلالة في النار، وأنت تقول: لا. هناك بدعة حسنة، ورسولك يقول، وأنت تنقل عنه: (وكل ضلالة في النار) هذا تناقض، لذلك زين لهم سوء عملهم، ونشأ من شريعتهم هذه السنة التي واظب عليها الرسول عليه الصلاة والسلام.
لذلك فأنا صار عندي مبدأ: بمجرد ما أسمع خطيباً يفتتح الخطبة بهذه الخطبة أقول: هذا لا بد، وأنا ما أقول سلفي، لكن عنده سلفية، وإلا فليس من الممكن أن يكون عنده بدعة حسنة ويأتي يخطب في الناس ويقول: وكل ضلالة في النار.
فهذا من الأحاديث الدالة على خلاف ما يراه المتأخرون المقلدة -وليسوا مجتهدين أبداً باعترافهم- من أن هناك بدعة حسنة، ثم يتجرءون لجهلهم بل لغباوتهم ويقولون: يا أخي! هذا نص عام لكنه مخصص. كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يقولون: ذلك مخصص.
أولاً: لا نعلم في ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم التي هي من جوامع الكلم مثل هذا التعميم ثم يدخله تخصيص، ولفظة (كل) من أصرح ألفاظ العموم والشمول: (كل بدعة ضلالة)، أقول دائماً وأبداً بهذه المناسبة على وزن قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مسكر خمر، وكل خمر حرام) هل من الممكن أن يقول قائل: ليس كل مسكر خمر، وليس كل خمر حرام؟ مستحيل هذا الكلام! وهناك كليات كثيرة: (كل بني آدم من تراب، ويتوب الله على من تاب)، لا يمكن أن إنساناً يقول: ليس من تراب، فأصله من تراب .. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى). إذاً: كل من أطاع الرسول عليه السلام دخل الجنة.
هذه الكليات لا تقبل التخصيص، وهذه الكلية جاءوا إليها فحطموها، وقالوا: ليس الحديث على عمومه، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية العارف بالله حقاً، ولا أدري هل نثني عليه خيراً حينما نصفه بما يصف غيرنا بعض كبارهم، حينما نصف ابن تيمية بأنه العارف بالله حقاً، ما ندري أنذمه أم نثني عليه! لكن إنما الأعمال بالنيات؛ لأنه حقيقة هو عارف بكتاب الله وبحديث رسول الله، يقول: رسول الله في كل خطبة جمعة فضلاً عن خطب أخرى يقول فيها: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)، تأكيداً وتقريراً لهذه القاعدة، ثم يأتي هؤلاء في أبسط حماقة ويقولون: لا. هذه ليست عامة، ولا مرة يقول الرسول عليه الصلاة والسلام ما كل ضلالة بدعة، فهو دائماً يؤكد، وتكرار الجملة العامة على اختلاف الملابسات والمناسبات من حيث الأسلوب العربي، تأكيد أن هذا الكلام -كما أنكم تسمعون- لا يقبل تأويلاً ولا تقييداً ولا تخصيصاً إطلاقاً.
فهنا يقول: (كل بدعة) هذه كلية، وهناك يقول: (من أحدث)، أيضاً: (من): مِن صيغ العموم والشمول، ومعنى: من أحدث أي: كل من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه فهو رد، والبحث في هذا طويل، ولكن أذكّر أيضاً بأثر عن صحابي جليل، كان بارزاً من بين الصحابة بحبه للرسول صلى الله عليه وسلم وحبه لاتباعه واتباع سنته، فسر لنا الجملة الأولى: (كل بدعة ضلالة) تفسيراً سد الطريق على هؤلاء المبتدعة، فهم يقولون: كل بدعة ضلالة، وهذا يأتي فيرد عليهم، وكأنما الله عز وجل قد كشفها عن بصيرته، ولو كنا نؤمن بالكشف الذي يقول به الصوفية وأتباعهم لقلنا: انكشف له؛ لأنه سيأتي أناس من بعدهم يقولون: هذه بدعة حسنة، وأن قول الرسول: (كل بدعة ضلالة) من العام المخصوص، كشف له ذلك فأجابهم سلفاً، فقال: [كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة]، فأين تذهبون يا مقلدون؟
وعلى فرض أنه أخطأ هذا الرجل وهو من كبار الصحابة، فنحن نقبل ولا نقول بالعصمة، لكن لا نرد كلام الصحابي الواحد -فضلاً إذا كانوا أكثر- بمجرد أن يرد عليه مقلد، بل ولو كان مجتهداً إلا بالدليل، فكيف ذلك وهناك من الصحابة من يقول وهو حذيفة بن اليمان : [كل عبادة لم يتعبدها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها]، عدوا العبادات التي يفعلها الناس اليوم، واطلبوها من كتب التقليد وليس كتب السنة، سوف لا تجدون لها ذكراً، لماذا؟ لأن المقلدين -أنفهسم- الذين هم علماء بأقوال أئمتهم من قبل ما سطروا هذه البدع، وكل يوم تأتي بدعة جديدة، لماذا؟ لأن خرج البدع لا يكاد يمتلئ أبداً، فهو واسع جداً، والشيطان للناس بالمرصاد، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح لما خط خطاً مستقيماً وقرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] خط الخط المستقيم وخط على طرفيه خطوطاً كثيرة، وقال: (هذه الخطوط للشيطان طرق، وعلى رأس كل طريق منها شيطان يدعو الناس إليه)، فشياطين الجن فضلاً عن شياطين الإنس لا يزالون أحياء يقومون بوظيفتهم، ولذلك فالسعيد من يستعصم ويستمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها.
ما هي العروة الوثقى؟ الكتاب والسنة.
ولعل في هذا الخبر الكفاية، وإن كنت أشعر -كما قلت لكم في مبتدأ الكلام- أن موضوع البدعة في الإسلام يحتاج إلى محاضرات عديدة، فعساني في درس آتٍ -إن شاء الله- أتبع البحث هذا ببحث متمم أو مكمل بعضه على الأقل بأدلة أخرى نذكر بها الإخوان، ونعالج شبهات المتأخرين التي يتمسكون بها لرد هذه الأساطين من الأدلة في أنه ليس في الدين بدعة حسنة.
وقد ذكرنا لكم بعض الأحاديث والآثار التي تنهى المسلم عن الابتداع في الدين، ولا أدري إن كنت ذكرت لكم شعور وانتباه ذلك الرجل الذي كان من أحبار اليهود، الذي تنبه لهذه النعمة وعظمتها على المسلمين، حين جاء إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال ذلك الحبر اليهودي: يا أمير المؤمنين! آية لو أنها علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا يوم نزولها عيداً، قال: ما هي؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً [المائدة:3]، فقال عمر رضي الله عنه: [لقد نزلت يوم عيدنا، نزلت يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في عرفات ] .
ومعنى هذا الكلام من هذا الحبر اليهودي أنه عرف بالغ أهمية هذه النعمة التي امتنَّ الله بها على عباده المؤمنين، حيث أكمل لهم الدين؛ ذلك لأنه سيفرغهم لأن يعملوا لشئون حياتهم، وأن يتفرغوا لها بعد قيامهم بواجبات ربهم، فأغناهم بهذا التشريع الكامل أن يتوجهوا إلى التشريع والتقنين الذي ليس من اختصاصهم وإمكانياتهم؛ ذلك لأن الإنسان كما وصفه ربنا في القرآن: وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85]، فالإنسان لا ينظر بالنسبة لما يتعلق بمصالحه المستقبلة إلى أبعد من أرنبة أنفه -كما يقول المثل العربي- فلذلك نجد كل الذين يسمونهم بالمشرعين والمقلدين في كل بلاد الدنيا، كل يوم يأتوننا بدستور، وكل يوم يأتوننا بقانون؛ وذلك لأنه يتبين لهم بالتجربة العملية أن هذه القوانين بل الدساتير لا تقوم بمصالح العباد.
ذلك الحبر اليهودي فعلاً كان من العلماء حينما عرف هذه النعمة وقدرها، فجاء ليقول لـعمر بن الخطاب : لو علينا نحن اليهود نزلت هذه الآية لاتخذنا يوم نزولها عيداً، فأخبره عمر بأنها فعلاً نزلت في يوم عيد، ألم يكن المسلمون أحق وأولى بأن يعرفوا فضل هذه النعمة من ذاك اليهودي؟ لقد كان الأمر كذلك، وكان كذلك بالنسبة للسلف الأول، فقد كانوا أبعد الناس عن الإحداث في الدين ما ليس منه، ومن هنا تبين المرتبة التي وصل إليها اهتمام السلف في إنكار البدعة.
فماذا يقول هؤلاء لو بعثوا في زمننا هذا، ونظروا إلى هذه البدع التي لا يمكن إحصاؤها؛ لأنها بالألوف المؤلفة؟ لا شك أن إنكارهم سيكون بالغاً جداً جداً على هؤلاء المحدثين لهذه البدع، وأنهم سيذكرونهم بأن هذا الإحداث في الدين هو تشريع، والتشريع إنما هو من حقوق رب العالمين تبارك وتعالى.
استمع المزيد من الشيخ محمد ناصر الدين الألباني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
السياسة الشرعية | 3288 استماع |
التعامل مع الجن | 3280 استماع |
فرصة استئناف الحياة الإسلامية | 3173 استماع |
مسائل أبى الحسن الدعوية (1) | 3113 استماع |
السنة والبدعة والشبهات | 3087 استماع |
لباس البنطال فى الصلاة | 3080 استماع |
فقة الصلاة وتحنيط الطيور | 2933 استماع |
المرأة التي أبكت الشيخ الألباني | 2923 استماع |
كيفية تلقي العقيدة | 2905 استماع |
أسئلة الإمارات | 2902 استماع |